فيما تعد منطقة الشرق الأوسط مركز العالم في إنتاج النفط والغاز، وعليها يعتمد أمن الطاقة العالمي، فمن الطبيعي أن تؤثر الحرب الإسرائيلية على غزة، وما يرتبط بها من احتمالات تمدد وتصعيد في سوق الطاقة. ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تعد الحرب الإسرائيلية الخطر الجيوسياسي الأكبر، المهدد لسوق الطاقة العالمي
ففي اليوم التالي للحرب 8 أكتوبر، ارتفعت أسعار النفط بنحو 5% أو 4 دولارات للبرميل بسبب المخاوف على الإمدادات، وفي 22 أكتوبر ارتفع سعر خام برنت بنسبة 10%، ونظيره الأمريكي بنسبة 9%. وحذر خبراء أن الحرب قد تتسبب في تعطيل الإمدادات، ودفع الأسعار إلى الارتفاع، فيما صرح رئيس وكالة الطاقة الدولية أن الحرب لا تجلب أخبار جيدة لأسواق النفط المنهكة بالفعل، بسبب تخفيضات الإنتاج من أوبك بلس (1.3 مليون برميل يوميًا)، وصعود الطلب الصيني.
يأتي ذلك رغم أن إسرائيل ليست دولة نفطية، ولا توجد بنية تحتية دولية كبرى للنفط قرب غزة، لكن يبقى خطرًا محتملاً التوسع الإقليمي للحرب، خاصة أن الشرق الأوسط يمثل ثلث العرض العالمي من النفط. ويمر عبر مضيق هرمز الاستراتيجي 20% من الإمدادات العالمية، أو نحو 30% من النفط المنقول بحرًا.
وقد حذر البنك الدولي في تقريره في 30 أكتوبر، أن الحرب يمكن أن تحدث صدمة في أسعار المواد الخام، مثل النفط والمنتجات الزراعية حال تصاعد الصراع واتساع رقعته، وبحسب كبير خبراء الاقتصاد في البنك ستكون هذه أول صدمة مزدوجة تتعرض لها أسعار السلع الأساسية، ومنها النفط، في إشارة إلى الحربين، الروسية والإسرائيلية.
وكان البنك قد أشار إلى أن أسعار النفط قد ترتفع إلى أكثر من 150 دولارا للبرميل إذا تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، رغم أن أسعار النفط حاليًا لا تزال عند مستوى 90 دولارا، وأن هذا السعر يمكن أن ينخفض، إلا أن هذا التوقع يمكن أن ينقلب بسرعة. وفي ظل أسوأ السيناريوهات طبقًا للبنك، يمكن أن يتطور الوضع إلى وضع مماثل لأزمة النفط في السبعينيات من القرن الماضي، أما إذا لم تتفاقم الأزمة، فإن التوقعات الحالية تشير إلى إمكانية انخفاض الأسعار إلى 81 دولارا للبرميل.
غير أن الاقتصاد العالمي لا يزال يتعافى من ارتفاع أسعار الطاقة الذي شهده العام الماضي، ومن الممكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة التضخم، كما حدث في أعقاب الحرب الروسية، وأن يؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية، خاصة المواد الغذائية، ما ينذر بتفاقم أزمة الأمن الغذائي عالميًا. والسيناريو الأفضل الذي حدده البنك يتوقع فيه حدوث اضطراب بسيط، يخفض إمدادات النفط العالمية إلى ما بين نصف إلى مليوني برميل يوميًا، فترتفع أسعار النفط إلى ما بين 93 – 102 دولار للبرميل.
وأبقى محللون من «جولد مان ساكس» توقعاتهم لسعر برميل النفط في الربع الأول من 2024 عند 95 دولارا للبرميل، وأضافوا أن تراجع الصادرات الإيرانية قد يدفع الأسعار إلى الارتفاع نحو 5%، ولكن الأسعار قد تقفز بما يصل إلى 20% حال تحقق الاحتمال الأقل ترجيحًا بتصاعد الصراع في المنطقة. وقد ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 1% يوم 27 أكتوبر، في ظل مخاوف المستثمرين من اتساع نطاق الحرب، ومن ثم تعطل الإمدادات، بعد ورود تقارير أن الجيش الأمريكي قصف أهدافا إيرانية في سوريا.
ولأن الحرب في القطاع ظلت إلى الآن محدودًة مع دخولها الأسبوع الرابع، فقد هبطت أسعار النفط إلى أدنى مستوى، حيث انخفض خام غرب تكساس الوسيط بنسبة 3.8%، وبلغ نحو 83 دولارا للبرميل، وكان المضاربون قد توقعوا اجتياح بري كامل تقوم به إسرائيل، ولكن ظل هذا الاجتياح أقل مما توقعه المضاربون، ما تسبب في انخفاض علاوة المخاطرة وتسارع وتيرة البيع، ولكن المضاربين يستمرون في تضخيم أبعاد المخاطر الجيوسياسية التي تضاف لانخفاض المعروض من جانب أوبك بلس، للحيلولة دون تدهور الأسعار، ولذلك اتسمت أسعار النفط بالتقلب على مدى شهر أكتوبر الفائت.
من ناحية أخرى، فإن تركز إنتاج النفط والغاز في المنطقة، وتعدد المخاطر الجيوسياسية فيها، وآخرها تلك التي أظهرتها الحرب الإسرائيلية، تزيد القناعة عالميًا، خاصة من جانب البلاد المستهلكة للنفط والغاز، أن النفط والغاز ليس خيارين آمنين للطاقة، وأنه من الضروري تسريع تحول الطاقة في جميع أنحاء العالم، حيث تقدم المصادر المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح حلًا طويل الأمد لقضايا أمن الطاقة وتغير المناخ، طبقًا لما صرح به المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية.
وهناك مظهر آخر من مظاهر تأثير الحرب الإسرائيلية على أسواق النفط، وذلك بالنظر إلى إعراض المستثمرين عن أنشطة الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في الشرق الأوسط، ما سوف ينعكس على سوق الطاقة في المديين المتوسط والطويل، ومن الجدير بالذكر أن هذه الاستثمارات تعاني بالفعل من تراجع كبير بسبب ضغوط أزمة المناخ.
ويلاحظ هنا، أن تأثير الحرب على سوق الغاز كان أسرع، حيث ارتفع سعره في منتصف أكتوبر، عبر منصة تداول عقود الغاز الهولندية، وهي المؤشر الأوروبي للغاز الطبيعي بمقدار الثلث مقارنة بما كان عليه في7 أكتوبر، وارتفعت الأسعار من 11 دولارا إلى 17 دولارا لكل مليون وحدة حرارية.
كما ارتفع سعر الغاز المسال في بورصتي اليابان وكوريا من 14.5 إلى 18.5 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، فيما تهدد الحرب بشكل مباشر أيضًا سوق الغاز الطبيعي الإقليمي، ويمكن أن يكون لها تأثير على إمدادات الغاز الطبيعي المسال.
ورغم أن المخزونات الأوروبية ممتلئة، إلا أنها ليست كافية لتجاوز فصل الشتاء، حال توقفت جميع الإمدادات، كما أن تعطيل الواردات القادمة من الشرق الأوسط، قد يترتب عليه الاضطرار إلى العودة إلى الاعتماد على الغاز الروسي، ويذكر أنه في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا ارتفعت أسعار الغاز إلى 145 يورو لكل ميجاوات/ساعة وهو رقم قياسي، وإذا استمرت الحرب في غزة، وما قد يترتب عليها من تداعيات، فإن هذا يقلل من قدرة أوروبا ومرونتها في التعامل مع أي أحداث أخرى غير متوقعة، مثل شتاء قارس، أو انقطاع الإمدادات من مصادر أخرى، ما يزيد من احتمالات صعود الأسعار.
ومن المعلوم أن أوروبا قد عانت خلال العام الماضي من أزمة طاقة، تحت وطأة تداعيات الحرب في أوكرانيا وتوقف الإمدادات الروسية، فيما تتسبب التداعيات الحالية للحرب الإسرائيلية في تصاعد مخاوف مماثلة، لا سيما في ظل سيناريو أسوأ مرتبط بتوسع دائرة الصراع، ما يهدد بتأثير شديد في الأسواق، وإن كان التأثير إلى الآن مازال محدودًا بسبب امتلاء المخزون الاستراتيجي الأوروبي، وبسبب انخفاض الطلب بنسبة 15%، ولأن ما يصل لأوروبا من غاز إسرائيلي مازال بكميات قليلة، ويمكن الاستعاضة عنه من سوق الغاز المسال العالمية، فضلا عن تأخر قدوم فصل الشتاء.
وكان تأثير الحرب الإسرائيلية في سوق الغاز واضحًا بالنظر إلى إغلاق حقل تمار الإسرائيلي (شمالي غزة)، ما أدى إلى تراجع صادرات إسرائيل إلى دول مجاورة، وهو ما يضاف بالطبع إلى احتمالية تعطيل تنفيذ مشاريع الأنابيب الجديدة (مشروع خط أنابيب شرق المتوسط)، وتقليل رغبة المستثمرين في الإنفاق على المشروعات التطويرية لزيادة إنتاج الغاز الإسرائيلي. وإذا استمر إغلاق حقل «تمار»، ستضطر إسرائيل إلى استخدام أنواع وقود أخرى، أو استخدام إنتاجها من حقل «ليفايثان» بدلًا من بيعه، وهو ما يؤثر بالتأكيد في اقتصادها المنهك بالفعل.
وعموما، فإن تأثير الحرب الإسرائيلية في غزة على سوق الطاقة، يظل مرتبطا بمدى تفاقم هذه الحرب على المديين القصير والمتوسط، ومدى تأثيرها في خطوط الإمداد، والميل للاستثمار في مشروعات الطاقة، خاصة في مجالات الاستكشاف والتنقيب وتطوير الحقول، فضلًا عن علاوة المخاطر المرتبطة بالأوضاع الجيوسياسية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك