إن فكرة تهجير الشعب الفلسطيني أصبحت رؤية متكاملة وناضجة، ويطرحها الغرب الاستعماري بشكل علني بوقاحة منقطعة النظير ويطلب من الأخوة العرب أن يتعاملوا معها وأن يطبقوها، بالإغراء أو بالتهديد أو بكليهما.
والفكرة تقول ببساطة إنه يمكن توزيع الشعب الفلسطيني على عديد من بلدان الطوق أو غيرها من البلاد العربية أو حتى الأوروبية، وبذلك تنتهي القضية الفلسطينية ويوضع حد للصراع على اعتبار أن أحد طرفي هذا الصراع قد تم نفيه من المشهد وتم شطبه من سجل شعوب الأرض الحية
هكذا هي الفكرة ببساطة، والأكثر خطورة، إنه يمكن تطبيق هذه الفكرة بالحرب أو بالتهدئة، أي إن ما بعد الحرب قد يكون أخطر، وذلك من خلال تسهيل السفر وإغراءات الإقامة بالغربة، هذه الفكرة الاستعمارية التي ترى أن الشعوب يمكن قلعها أو طردها أو قتلها لأنها ليست بيضاء وليست أوروبية ولا تقدر سيمفونيات موزارت ولا تقرأ فلسفة هوسرين .
هذه الوقاحة وهذا الصلف، قابلته بعض الدول العربية بكثير من الحسم والحزم والقول بإن التهجير القسري للشعب الفلسطيني قد يواجه برد عسكري، وهو ما جعل هذه الفكرة تتراجع إلى حين، ولكن ذلك يكشف كثيرا من الأمور، نلخصها بما يلي :
أولا: إن النظام العربي تأخر كثيرا في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إما عجزا أو قلة وعي أو كلا الأمرين معا، وبعد 74 عاما من غياب الحل فإن انفجار الأوضاع الآن يعني أن إسرائيل ومن يدعمها يريدون إجبار الدول العربية على تحمل أعباء الاحتلال والمشاركة في حل الصراع على حساب تلك الدول وشعوبها .
ثانيا: إن إسرائيل التي أفرغت كل القرارات والمبادرات للتسوية من مضمونها، وجدت أن الطريق الأقصر لحل هذا الصراع هو من خلال الحلول العسكرية وتهجير الشعب الفلسطيني من جديد، ربما للحصول على سنين أخرى من الهدوء والاستقرار، ويبدو أن إسرائيل وجدت أن الظرف مناسب جدا لفرض التسوية ليس على الفلسطينيين فحسب بل على الدول العربية، لغياب التضامن العربي أو حاجة بعض الدول إلى المساعدة والحماية والرضا الأمريكي .
ثالثا: إن الدول العربية التي وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن مصالحها وسلامها الداخلي ومستقبل علاقاتها مع الغرب والإقليم، اكتشفت أن عليها مجابهة إسرائيل مهما كان الثمن، فالمطلوب ليس تجريم الفلسطيني وتحميله شرور الإقليم، ولكن المطلوب أن يشارك العالم العربي بشطب الشعب الفلسطيني في الوقت الذي يطالب به العرب بالتطبيع مع إسرائيل، وفي ذلك مفارقة لا يمكن لعاقل أن يقبلها مهما كان معتدلا أو مهادنا .
رابعا: إسرائيل التي تستغل الدعم الغربي لها تحاول بسرعة أن تفرض شكل التسوية ليس في غزة فقط بل في الضفة أيضا وذلك من خلال الهجوم الاستباقي من خلال الحواجز التي زادت على 700 حاجز وعمليات الاقتحام الليلي للمخيمات والمدن وعمليات الاعتقال الواسعة وكذلك من خلال استفزازات المستوطنين، وفي ذلك محاولة من إسرائيل لخلق نموذج مصغر لما ستكون عليه الأوضاع .
خامسا: الحرب الدائرة الآن على قطاع غزة، تنذر حقا بأن تتحول إلى حرب أوسع، تهدد مصالح الغرب وتضع احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية على الأجندة العالمية، وهو ما يدفع الفلسطينيين أينما كانوا إلى أن يوحدوا الخطاب و الأداء، فالصبر دائما ما يقود إلى نتائج إيجابية قد تغير من سواد المشهد وقتامته وتحيله إلى واقع آخر تماما .
سادسا: هل يمكن للدول العربية أن تطور موقفها الحازم والحاسم ضد التهجير القسري؟! نعم تستطيع، فلديها ما يمكن أن تخاطب به العالم الغربي الداعم لإسرائيل، لديها الثروات والممرات، ولديها الاتفاقات والسفارات، ولديها شعوب معطاءة يمكن أن تتقاسم معها الهم والتحدي، بحيث تتحول تلك الشعوب إلى مصدر قوة، فالشعوب كنز وثروة و يمكن أن يتحملوا كثيرا من المسؤوليات، وفي ذلك تطوير للمواقف وتصعيد للمطالب وتحقيق لها، بدءا من وقف القصف ومرورا بإدخال المساعدات إلى فرض تسوية حقيقية وحماية للشعب الفلسطيني وثرواته ومقدراته .
سابعا: برأيي فإن تطوير المواقف العربية باتجاه حماية الشعب الفلسطيني من خلال تسوية مقبولة على الجميع يحمي تلك الدول من زعزعة أمنية وسياسية أخرى في المنطقة كلها وربما تؤثر في حدودها أيضا .
الحرب هذه المرة ليست على الشعب الفلسطيني فقط، وعلى الجميع أن يدرك ويعي مسؤولياته قبل أن تفرض عليه.
{ رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك