ظل الحب الغربي المتجذر للصهيونية يعتمد دائما على محو التاريخ الفلسطيني والإنسانية الفلسطينية. في جميع أنحاء العالم الغربي، كان الرعب الرسمي والإعلامي من هجوم «حماس» غير المسبوق في السابع من أكتوبر على إسرائيل، والذي أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 1300 جندي ومدني، مصحوبًا بتأييد ساحق لوحشية إسرائيل المستمرة تجاه قطاع غزة، والتي أدت حتى الآن إلى مقتل وجرح أكثر من 22000 شخص من الفلسطينيين، وأغلبهم من المدنيين.
لقد كشفت أحدث دفعة من المحبة الغربية المفرطة للصهيونية بشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى عن المعايير المزدوجة الفاضحة التي تكمن وراء ارتباط الغرب بإسرائيل: ففي حين تعتبر الحياة اليهودية الإسرائيلية والدولة مقدسة فعلياً في الغرب المعاصر، فإن الحياة الفلسطينية الإسلامية والمسيحية يتم التقليل من قيمتها بشكل أساسي.
وفي ظل هذه المعايير المزدوجة، تتكشف أمام أعيننا محاولة الإبادة الجماعية التي تستهدف اليوم السكان الفلسطينيين في قطاع غزة.
تعتمد الفلسفة الصهيونية على ركيزتين. تتمثل الركيزة الأولى في وجهة نظر غربية معممة مفادها أن إنشاء إسرائيل هو مكافأة عادلة وأخلاقية لتاريخ معاداة السامية الأوروبية الذي بلغ ذروته في ما بات يسمى بالمحرقة. أما الركيزة الثانية فهي تتمثل في الشيطنة العنصرية المستمرة لمعارضي إسرائيل باعتبارهم برابرة غير غربيين من نوع غريب معاد للسامية.
والحقيقة أن الدعم الغربي لإسرائيل ترجع جذوره إلى إنكار الفلسطينيين باعتبارهم شعبا له تاريخ وثقافة عمرها قرون في أرض فلسطين التاريخية.
لم يشر وعد بلفور لعام 1917 سيء السمعة إلى الفلسطينيين أو العرب بشكل مباشر، ولكنه ألمح ببساطة إلى وجود «المجتمعات غير اليهودية» التي تتضاءل أهميتها التاريخية والأخلاقية والسياسية بالمقارنة مع «الشعب اليهودي»، الذي وجدت تطلعاته الوطنية التأييد من الحكومة البريطانية.
إن حقيقة أن الفلسطينيين العرب، مسلمين ومسيحيين على السواء، كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين في ذلك الوقت لم تكن ذات أهمية للفكر والممارسات الصهيونية اليهودية والمسيحية.
ولأن إسرائيل أنشئت على أنقاض مجتمع عربي متجذر في التاريخ، فإن التفكير الضمني عن الاضطهاد الغربي لليهود الأوروبيين جاء على حساب الفلسطينيين. لا يزال الأمر كذلك حتى اليوم.
وتستمر هذه الحسابات غير الأخلاقية في إثراء الخطاب الغربي بشأن إسرائيل. إن الصرح الأخلاقي الكامل للإنسانية الغربية المنغلقة والمركزية الأوروبية في فترة ما بعد الحرب عملت على إنشاء متاحف تشيد للذكرى، وخطاب عن التسامح والتأمل، وصراع مهووس ضد أشباح الماضي المعادي للسامية – كل ذلك مبني في النهاية على أكتاف الفلسطينيين الأصليين، الذين هجِّروا من منازلهم وأيضا من التاريخ.
لقد قاوم الفلسطينيون دائمًا هذه الأخلاق المغرضة، وقاوموا تهميشهم الأخلاقي والسياسي. لكن المقاومة الفلسطينية تم إخراجها من سياقها باستمرار، وتم تصويرها على أنها غير عقلانية وغير أخلاقية من قبل القوى الغربية ووسائل الإعلام الرئيسية.
إن إسرائيل «الصالحة» لا تؤجج أعمال العنف أبداً؛ إن ما تقوم به هو مجرد «انتقام» من همجية الإرهابيين المفاجئة والصادمة. وسواء كانت المقاومة الفلسطينية علمانية أو إسلامية، أو احتجاجًا مدنيًا أو كفاحًا مسلحًا، فإنها تُدرج على الفور ضمن إطار سردي ضار، مغرض وسلبي.
لقد تم تطبيع دولة إسرائيل اليهودية الاستعمارية الاستيطانية وتنزيلها في مركز التاريخ الحديث، في حين تم إبعاد الفلسطينيين إلى وراء كواليس التاريخ – حيث إنهم في أحسن الأحوال، يقبعون كأجنحة غير مرئية للعمل الإنساني الغربي والدولي، وفي أسوأها، باعتبارهم «إرهابيين أشرار» يجب تكبيدهم الهزيمة بأي ثمن.
من الصعب للغاية أن يتم الاستماع إلى الفلسطينيين عديمي الجنسية والمضطهدين، بغض النظر عن صوت طرقهم المرتفع على باب الوعي الغربي.
يتم تجاهل الحقائق الأساسية لتاريخ السكان الأصليين ومجتمعهم المتجذر في التاريخ، الذي انقلب رأسًا على عقب بسبب الاستعمار. إن ثقافتهم المسكونة بالتعددية العميقة، والتي شكلها الإسلام والمسيحية، اختزلت إلى صورة كاريكاتورية للتعصب الإسلامي.
كل هذا الإنكار والمحو يمكّن من بث الإشاعة الكاذبة بأن ما يحفز رغبة الفلسطينيين في تقرير المصير هو الكراهية غير العقلانية، وليس رغبة إنسانية أساسية وعالمية في العيش بحرية وكرامة كسائر الشعوب البشرية الأخرى.
يعتمد هذا التمثيل للمقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار على أنها بربرية على تقليد استعماري غربي أقدم بكثير يتمثل في شيطنة أي شكل من أشكال ثورة السكان الأصليين أو العبيد ضد الاضطهاد.
تم تصوير الثوار الهايتيين الذين أطاحوا بالعبودية الفرنسية على أنهم متوحشون متعطشون للدماء. وكذلك الحال بالنسبة إلى العبيد السود في أمريكا الشمالية الذين تجرأوا على الثورة، وأشهرها انتفاضة العبيد العنيفة التي قام بها نات تورنر في عام 1831، والتي سحقها مالكو العبيد في فرجينيا بلا رحمة.
كانت الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في جميع أنحاء أمريكا الشمالية مبنية على التقليل من قيمة حياتهم وتاريخهم، قبل أن يتم تحقيق ذلك من خلال بنادق وحراب ومدافع الجيش الأمريكي ومليشيات الدولة التابعة له.
وبالمثل، تم تصوير الانتفاضة الهندية الضخمة ضد الاستعمار البريطاني عام 1857 على أنها تعبير عن الخرافة والتعصب الفطري لدى «الشرقيين» ضد الحضارة الإمبراطورية البريطانية الراقية.
ومن هذه السوابق في القرن التاسع عشر جاءت عملية شيطنة الثورات الكبرى المناهضة للاستعمار في القرن العشرين. في كل حالة، سواء كانت حالة الجزائريين، أو الكينيين، أو جنوب إفريقيا، أو السوريين، أو الفلسطينيين، أو العراقيين، أو الفيتناميين – والقائمة بالطبع أطول بكثير – كان الغرب يردد في كل مرة نفس الأسطوانة – الخوف بل الرعب من الوحشية المحلية، والهمجية، والعنف والإرهاب.
وعلى نحو فريد من نوعه بين جميع الشعوب المقهورة الأخرى المنخرطة في النضال ضد الاستعمار، يتحمل الفلسطينيون العبء الإضافي المتمثل في تعرضهم للاضطهاد من قبل الضحية النموذجية في الوعي الغربي الأوروبي الحديث.
ولهذا السبب، في حين بدأ اليساريون المشهورون في العالم الغربي بالتعاطف مع النضالات المناهضة للاستعمار في الجزائر، إلا أنهم نادرًا ما عبروا عن تضامن مماثل مع الفلسطينيين. فالبعض منهم، مثل الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، تخلى عن الفلسطينيين في النهاية تمامًا وانحاز إلى مضطهديهم الإسرائيليين.
في العقود التي تلت حرب الأيام الستة في عام 1967، انتشرت ثقافة إحياء الذكرى، التي تركزت على الشرور المروعة للهولوكوست، في جميع أنحاء دول الغرب المعاصر. وقد عززت هذه الثقافة الشعور بأنه عبر تاريخ البشرية كله، عانى شعب واحد أكثر من أي شعب آخر من اضطهاد لا يمحى حتى إنشاء دولته القومية، حيث جعل «الرواد» اليهود «الصحراء تزهر».
في مثل هذا الإطار الأخلاقي الأوروبي المركز، يصبح مصير الفلسطينيين الذين يعيشون تحت نير الاحتلال غير مهم في الأساس، إن لم يكن غير ذي صلة. علاوة على ذلك، ترتكز الأيديولوجية الصهيونية على الاقتناع بأن دولة إسرائيل تمثل، بل وتجسد، مصير الشعب اليهودي. ومن ثم فإن مهاجمة إسرائيل يعني مهاجمة الشعب اليهودي.
أن تكون «ضحية الضحايا»، كما قال إدوارد سعيد، يجعل النضال الفلسطيني ضد الاستعمار عبثيًا تقريبًا. إن المقاومة الفلسطينية ضد الدولة اليهودية، خارج سياقها وتاريخها، يُنظر إليها ويُشعر بها على أنها تجسيد رهيب للماضي الشيطاني المعادي للسامية.
ترى الفلسفة الصهيونية الآن أن «الوقوف إلى جانب» دولة إسرائيل المستعمرة لا يعني كراهية الفلسطينيين، بل حب اليهود؛ لكن الوقوف مع التحرير الفلسطيني لا يعني حب الفلسطينيين أو الإنسانية أو العدالة أو الحرية، بل يعني كراهية اليهود. ويؤدي هذا إلى الخلط بين تحرير فلسطين ومعاداة السامية، وتجريم التضامن مع الفلسطينيين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
إن التصريح الصادم الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن الهجوم الذي شنته حماس يوم 7 أكتوبر كان «لا يقل أهمية عن المحرقة» مليء بالمعاني المظلمة. إن العبارة السائدة في كل مكان بأن حماس «شريرة»، وأن الهجوم الذي شنته الجماعة كان أسوأ هجوم ضد اليهود منذ المحرقة، وهو ما يحول النضال الفلسطيني من نضال مناهض للاستعمار إلى نضال معاد للسامية في تشويه صارخ للتاريخ.
إن بايدن إنما ينقل واقع الفلسطينيين من دراما متجذرة في تاريخهم وتجاربهم الحياتية إلى دراما مركزية أوروبية مألوفة لدى الجماهير الغربية، حيث إن الفاعلين المهمين الوحيدين هم النازيون الأشرار، والضحايا اليهود الأبرياء، ومنقذوهم هم الأمريكيون وحلفاؤهم.
وهكذا فإن المتحمسين المسيحيين واليهود لإسرائيل يتأكدون في قناعتهم بأن الفلسطينيين لا يقاومون الدولة الاستعمارية التي بنيت قسرا على أرضهم، الدولة التي دمرت حياتهم، وعاملت عائلاتهم بوحشية، وحاصرتهم، ونفتهم، وضايقتهم، وأرهبتهم، وأمعنت في إذلالهم، وانتهاك حقوقهم. وسجنتهم وقتلتهم لعقود من الزمن دون عقاب. إن الفلسطينيين يصورون على أنهم هم الذين يقتلون الإسرائيليين لمجرد أنهم يكرهون اليهود.
إن الإنكار التام للتاريخ والسياق الفلسطيني هو وحده ما يجعل مثل هذا الاستنتاج المنافي للعقل قابلاً للدفاع عنه، ويجعل الإبادة الجماعية ممكنة مرة أخرى.
{ أستاذ التاريخ بجامعة بيركلي – كاليفورنيا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك