أوقعت إسرائيل نفسها في معضلة كبيرة، عندما حددت لنفسها هدفا عاليا بحجم «سحق حماس» والقضاء على بنيتها العسكرية والسياسية في قطاع غزة. هذا الهدف لا يمكن تحقيقه من دون اجتياح بري كامل للقطاع حشدت له إسرائيل مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وبدعم عسكري وسياسي أمريكي بلا حدود.
على الرغم من التوغلات «المحدودة» في قطاع غزة وإعلان «توسيعها» ليل الجمعة – السبت الماضي، فإن إسرائيل تُوحي وكأن الغزو البري الشامل حاصل في أي لحظة.. من قطع شامل لوسائل الاتصال وخدمات الإنترنت، وتصعيد غير مسبوق للقصف الجوي والبري إلى الحصار المطبق وحرمان 2.3 مليون نسمة من الغذاء والماء والكهرباء والدواء، إلى الحصول على الحماية الأمريكية في مجلس الأمن والحؤول دون إصدار قرار دولي بوقف إطلاق النار.
ومع ذلك، يبقى سؤال مدى الغزو البري وإلى أي حدود يمكن أن يصل؟ أم تشرَع إسرائيل في غزو شامل؟ صحيح أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لشنّ عملية برية من دون تحديد نطاقها الجغرافي، لكن بات معلوما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التريث قليلا للإفساح في المجال أمام جهود دبلوماسية تبذلها قطر ومصر، من أجل الإفراج عن مزيد من المدنيين من ذوي الجنسية المزدوجة أو حملة الجنسية الأجنبية فقط ممن احتجزتهم «حماس» خلال اقتحامها لغلاف غزة في 7 أكتوبر. إلى ذلك، طلبت واشنطن من إسرائيل إرجاء الغزو البري إلى حين اكتمال التعزيزات الأمريكية في الشرق الأوسط، بحيث تصبح جاهزة للرد على أي هجوم قد تتعرض له المصالح الأمريكية من قبل القوى الحليفة لإيران في المنطقة، في حال توسعت الحرب وفتحت جبهات جديدة. ومنذ 17 أكتوبر وقعت هجمات ضد قاعدة التنف في سوريا وقاعدة عين الأسد في العراق.
ويومياً تُعلن وزارة الدفاع الأمريكية وصول المزيد من القوات الأمريكية لتضاف إلى حاملتي الطائرات «جيرالد فورد» و«دوايت أيزنهاور» ونظام «ثاد» المتطور للدفاع الجوي وأسراب من مقاتلات «إف-35» و«إف-16» و«أي-10». وفي ما يشبه رسم خط أحمر أمام طهران، استهدفت مقاتلات أمريكية منشأتين للحرس الثوري الإيراني في سوريا، فجر الجمعة الماضي، بعدما كان جو بايدن قد وجّه تحذيراً لمرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي بالاسم. ويُشارك ضباط أمريكيون في الاجتماعات التي يعقدها المسؤولون العسكريون الإسرائيليون المكلفون وضع خطط الغزو البري. وأعلن البنتاجون رسميا أن نائب قائد قوات «المارينز» الجنرال جايمس جلين موجود في إسرائيل لهذا الغرض.
وفي الإجمال، يستعرض الجنرالات الأمريكيون والإسرائيليون مآلات أي هجوم بري شامل على غزة. ويكثر الحديث عن أمثلة من التاريخ الحديث والأبعد نسبياً لمعارك مشابهة للمعركة المرتقبة في غزة. البعض يُشبّه غزة بالموصل نظراً إلى تشابه المكانين من حيث عدد السكان وشبكات الأنفاق، على ما ذهب إليه قائد القوات الأمريكية السابق في العراق وأفغانستان الجنرال المتقاعد ديفيد بيترايوس. والبعض الآخر يورد معركة مدينة الفلوجة العراقية أيضاً كمثال، في حين يعقد خبراء عسكريون مقارنة مع مدينتي باخموت وماريوبول الأوكرانيتين. ليست الكلفة البشرية التي ستتكبدها إسرائيل أو سقوط المزيد من المدنيين في غزة، هما العاملان اللذان يدفعان أمريكا إلى الضغط على تل أبيب كي تتريث قبل الاندفاع براً إلى غزة، ذلك أن أصوات ترتفع في الولايات المتحدة داعية إلى دمج العنصر السياسي مع العمل العسكري. وبايدن نفسه قال إن الشرق الأوسط لن يعود إلى الوضع الذي كان عليه قبل 7 أكتوبر.
من المسلم به، إن حرب المدن عموماً مكلفة من الناحية البشرية. فكم بالحري مع وجود شبكة من الأنفاق في قطاع غزة يبلغ طولها بحسب تقديرات الخبراء الغربيين 310 أميال رغم أن القطاع تبلغ مساحته فقط 362 كيلومتراً مربعاً. ويصل عمق بعض هذه الأنفاق إلى 80 متراً، أي تقريباً بعمق نفق «المانش» تحت سطح البحر. وتملك «حماس» في هذه الأنفاق 40 ألف مقاتل. وهي أمضت 16 عاماً تستعد لهذه اللحظة، ناهيك بقوة مماثلة لحركة الجهاد الإسلامي تُقدّر بنحو عشرين ألف مقاتل، ناهيك عن فصائل ومجموعات أخرى صغيرة.
وبحسب القائد السابق لسلاح الهندسة الإسرائيلية القتالية أمنون سوفرين «سيكون هناك الكثير من الأفخاخ الملغومة. لديهم أسلحة حرارية لم تكن لديهم في 2021 وهي أكثر فتكاً. وأعتقد أنهم حصلوا على كثير من أنظمة الأسلحة المضادة للدبابات التي سيحاولون أن يضربوا بها ناقلات الجنود المدرعة والدبابات». وخاضت إسرائيل معارك في جنين عام 2002 وفي جنوب لبنان عام 2006، ونفذت عمليات اقتحام ضد مراكز حضرية فلسطينية أخرى، بينها عام 2014 في غزة نفسها. لكن المعركة المقبلة قد تكون مختلفة كلياً بسبب الأهداف المحددة لها.
يكتب مراسل مجلة «نيوزويك» الأمريكية في تل أبيب دان بيري، «أن حجم الموت والدمار لمثل هذه العملية سيزيد من احتمال دخول حزب الله في النزاع، وأن يؤدي إلى انتفاضة أخرى في الضفة الغربية، وحتى احتمال اندلاع أعمال شغب دامية بالنسبة إلى بعض العرب داخل إسرائيل». ويصل إلى استنتاج بأن الغزو البري «سيكون بمثابة هدية لحماس وإيران»، ومقارنة مع معركة الموصل التي استمرت 277 يوماً من عامي 2016-2017، فإن الخسائر البشرية بلغت بحسب أرقام نشرتها منظمات غير حكومية ما بين تسعة آلاف و11 ألفاً.
أما قوات مكافحة الإرهاب العراقية، التي كانت تخوض الهجوم البري بغطاء جوي أمريكي، فيقال إنها فقدت ما يصل إلى نحو 40 في المئة من عديدها بين قتيل وجريح. وفي ماريوبول الأوكرانية، يُقدر عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا العام الماضي بعشرات الآلاف، بينما فقد الجيش الروسي جنرالين وآلاف الجنود، ولم تتوقف المعركة إلا بعدما أمر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما تبقى من الجنود المتحصنين في معامل آزوفستال بالاستسلام. ومعركة باخموت كلّفت عشرات الآلاف من الجنود الروس والأوكرانيين خسائر في صفوف مجموعة «فاجنر» الروسية الخاصة لا تقل عن 20 ألف مقاتل خلال تسعة أشهر من القتال. وتنقل صحيفة «تايمز» البريطانية عن الخبير الأسترالي في مكافحة الإرهاب الكولونيل ديفيد كيلكولن ما كتبه في العدد الأخير من مجلة «فورين أفيرز» الفصلية حول اضطرار أمريكا إلى وقف معركة الفلوجة عام 2004 «تحت ضغط الرأي العام العالمي.. بسبب الخسائر المتعاظمة في صفوف المدنيين».
ويقول إن «هجوماً برياً في غزة ينطوي على مخاطر استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل، ويُمكن أن يُدمّر شرعيتها الأخلاقية».
وبحسب أستاذ دراسات الحرب في الكلية الملكية بلندن لورنس فريدمان، فإن التحدي الذي يواجه إسرائيل هو «مواءمة وسائلها العسكرية مع أهدافها السياسية».
ويقول إنه «مهما كانت إسرائيل مؤهلة من الناحية العسكرية، فإن الهدف السياسي الطموح جداً سينتهي بالإحباط والفشل». ويورد مثالاً على ذلك كيف انتهى الانتصار الأمريكي في العراق وأفغانستان إلى الفشل سياسيا.
أما مراسل صحيفة «النيويورك تايمز» الأمريكية في تل أبيب ستيفن إيرلانجر فيرى أنه وسط الحشود الإسرائيلية «يُطرح لغز سياسي حول ماذا سيحدث لغزة بعد انتهاء الحرب. وبعد الدخول، كيف ستخرج إسرائيل. وبعد أن تُفكّك حماس، هذا إذا استطاعت، لمن ستُسلم المفاتيح؟ وإذا لم تعد حماس تحكم غزة، فمن سيفعل»؟
ويستشهد الكاتب بتحليل مقتضب للفتنانت جنرال البريطاني المتقاعد توم بيكيت الذي يتولى الرئاسة التنفيذية لبرنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية يقول فيه: «في الحقيقة، لا توجد خيارات جيدة بالنسبة إلى هجوم إسرائيلي بري في غزة.. وبصرف النظر عن نجاح العمليات في إلحاق الهزيمة بحماس كمنظمة عسكرية، فإن حماس ستستمر كضرورة سياسية في حين أن الدعم الشعبي للمقاومة سيستمر.. فإما تحتل إسرائيل غزة لتحكمها، أو في حال انسحابها بعد الهجوم، فإنها ستتخلى عن الأرض لأشخاص يعتبرون المقاومة بمثابة الوجود».
وتنقل صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية عن الزميل الأول في معهد أبحاث السياسة الخارجية روب لي قوله إن «قتال المدن بطيءٌ جداً، وطويلٌ ومكلفٌ. ليس ثمة طريقة أخرى لإنجازه.. عندما تذهب إلى عدوٍ يدافع عن أراضٍ في المدن، خصوصاً إذا ما كان لديه الوقت لتجهيز دفاعات جيدة، وليس مستعداً للاستسلام بسرعة، فإن الأمر يستغرق وقتاً».
بعد كل هذه المحاذير، هل يكون المخرج بتوغل إسرائيلي لجزء من القطاع وليس اجتياحاً كاملاً، في ضوء تراجع التأييد داخل إسرائيل نفسها للعملية البرية، وإعطاء الأولوية لكيفية تأمين الإفراج عن الأسرى. وأظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، في 27 أكتوبر، أن نصف الإسرائيليين تقريباً يريدون وقف أي اجتياح لغزة، بينما كانت نسبة التأييد لهجوم بري كبير قد وصلت إلى 65 في المئة، وذلك في استطلاع أجرته الصحيفة نفسها في 19 أكتوبر.
{ كاتب وصحفي من لبنان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك