على حافة حرب إقليمية محتملة تتبدى مسؤولية الولايات المتحدة عن الوصول إلى هذه النقطة الخطرة. إلى أين.. من هنا؟ هكذا يطرح سؤال المصير، مصير القضية الفلسطينية والمنطقة والنظام الدولي، نفسه عصبيا وملغما.
أول مفارقة في المأزق، الذي يحكم حلقاته على الأدوار الأمريكية، أن إداراتها المتعاقبة دأبت في العقود الأخيرة على التأكيد أنها بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط بكل أزماته المزمنة والمستجدة لصالح التوجه إلى الشرق الآسيوي، حيث الصراع على النفوذ والمصالح والمستقبل محتدما مع الصين. رغم ذلك الرهان الاستراتيجي تكاد أن تستغرق الآن في حرب غزة حيث الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يحتدم بالسلاح مجددا.
ثاني مفارقة، أن إدارة «جو بايدن» لم يعهد عنها، عكس الإدارات السابقة، أي اهتمام بملف الصراع يتجاوز سطحه إلى عمقه. لا حرصت أن يكون لديها مشروع، أيا كان نوعه ومدى خطورته، لتسوية القضية الفلسطينية، كما طمح رؤساء أمريكيون عديدون. ولا عملت على تصفيتها على النحو، الذي حاولته إدارة سلفه وغريمه «دونالد ترامب» بما أطلق عليها «صفقة القرن».
مع ذلك فإنها تنخرط سياسيا وعسكريا في حرب غزة بأكثر مما أقدمت عليه أي إدارة أمريكية في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة.
ثالث مفارقة، التراجع الفادح في مستوى كفاءة الإدارة السياسية الأمريكية لأزمات الشرق الأوسط. الارتباك باد في خطابها والشكوك تضرب صلاتها مع حلفائها التقليديين. الأسوأ أنها لا تعرف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه بالتورط المباشر في حرب إقليمية تقول إنها لا تريدها.
لم يكن الانحياز المطلق لإسرائيل جديدا على الولايات المتحدة منذ صعودها إلى قيادة النظام الدولي إثر الحرب العالمية الثانية، لكنه بدا هذه المرة على درجة كفاءة منخفضة في إدارة الصراع، الذي يوشك أن ينجرف إلى حرب إقليمية مدمرة تضر بالمصالح الأمريكية قبل غيرها.
لا يمكن المقارنة – على سبيل المثال – بين مستوى كفاءة وزير الخارجية الحالي «أنتوني بلينكن» والتفويض الممنوح له من «بايدن» في إدارة أزمة ما بعد السابع من أكتوبر (2023) بكفاءة وزير الخارجية «هنري كيسنجر» والتفويض الممنوح له من الرئيس الأسبق «ريتشارد نيكسون» بأعقاب السادس من أكتوبر (1973).
في (1973)، ألمت بإسرائيل هزيمة فادحة في الأيام الأولى من الحرب.
وفى (2023)، بدت في وضع انكشاف عسكري واستخباراتي غير مسبوق.
كلاهما يهودي وموال لإسرائيل، «كيسنجر» تعامل كوزير خارجية قوة عظمى بينما «بلينكن» حرص على إبراز هويته الدينية، كان ذلك خطأ جوهريا ينطوي على دعوة صريحة إلى حروب دينية.
كلاهما تبنى إمداد إسرائيل بجسر جوى من الأسلحة المتقدمة، لكن «كيسنجر» بنى تصورا سياسيا للحل فيما يعرف بـ«الخطوة خطوة»، وتمكن في النهاية من إجهاض بطولة السلاح في حرب أكتوبر وعزل مصر عن الصراع كله ومحيطها العربي.
لا يمتلك «بلينكن» مثل هذه الكفاءة القاتلة في إدارة الأزمات الدولية. الأخطر أنه ركز جانبا كبيرا من جهده الدبلوماسي في محاولة تسويق سيناريو تهجير أهالي غزة إلى سيناء.
لم يكن ممكنا أن تقبل مصر ذلك السيناريو، ولا الأردن بوارد الصمت على تداعياته خشية أن يتكرر تهجير مماثل بترهيب السلاح من الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى، ولا الفلسطينيون جميعهم مستعدون لتقبله خشية نكبة ثانية أفدح وأخطر تقضي على قضيتهم إلى الأبد.
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تغيب عن الإدارة الأمريكية أي تصورات لما قد يحدث في اليوم التالي. إن أي استراتيجية عسكرية تتجاهل الخسائر البشرية في غزة قد تأتي بنتائج عكسية. كان ذلك تحذيرا معلنا من «باراك أوباما»، الرئيس الأسبق وكلمته مسموعة في إدارة «بايدن» نائبه لدورتين رئاسيتين.
بشيء من التفصيل الضروري لشرح حيثياته: «بعض الإجراءات مثل قطع إمدادات الغذاء والماء يمكن أن تفضي إلى تصلب الأجيال الفلسطينية وتضعف بالوقت نفسه الدعم الدولي لإسرائيل».
وهو ما تحقق باتساع نطاق التظاهرات الشعبية بمختلف العواصم والمدن العربية والأوروبية والأمريكية، دعما للقضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بأنفسهم. الأسوأ بالنسبة إلى إدارة «بايدن» أن الصف الأوروبي الموحد خلفها بدأ يتشقق.
بتعبير الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، الذى لم يخف انحيازا مماثلا، فإنه «سوف يكون خطأ أن تنفذ إسرائيل تدخلا بريا واسع النطاق. »بايدن» نفسه حذر الإسرائيليين من إعادة احتلال غزة، لكنه يندفع بالوقت نفسه إلى حافة الحرب الإقليمية المحتملة. هكذا يبدو المأزق محكما.
رابع مفارقة، أن الدعم العسكري والاستخباراتي وإمدادات السلاح وإرسال حاملتي طائرات وبوارج حربية إلى شرق المتوسط، والشراكة في التخطيط والإعداد، وصل إلى حدود غير مسبوقة.
مع ذلك تخشى الإدارة الأمريكية عواقب الحرب ولا تطمئن إلى جاهزية الجيش الإسرائيلي لخوض حرب برية طويلة مكلفة في شوارع وأزقة وأنفاق غزة. وفرت حماية كاملة لجرائم حرب بشعة بحق المدنيين الفلسطينيين.. وادعت بنفس الوقت حرصها على إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
كان ذلك محض ادعاء لتجنب الانتقادات المتصاعدة في العالم تحت وطأة المشاهد المروعة في غزة، حيث استشهد حتى هذه اللحظة أكثر من (8) آلاف فلسطيني أغلبهم من الأطفال والنساء، وأصيب أكثر من (20) ألفا آخرين. إنها حرب إبادة تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليتها السياسية والأخلاقية.
بذريعة الحفاظ على حياة الرهائن المحتجزين في غزة واستكمال جاهزية القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة خشية أن تتعرض لهجمات ممن تسميهم «وكلاء إيران»، طلبت تأجيل العملية البرية من دون أن تحدد أهدافها من الشراكة في الحرب.
بدواعي الانتقام من الهزيمة المذلة في موقعة السابع من أكتوبر بدأت إسرائيل تدخلا بريا محدودا، قالت إنها سوف توسعه لكنها تخشى عواقبه ولا تعرف لعملياتها أهدافا محددة، كل يوم حديث يختلف عن سابقه. وفق تصريح أخير لـ«بنيامين نتنياهو» فإنه لا تناقض بين توسيع العملية البرية وصفقة تبادل الأسرى، التي قد تضع حدا للحرب.
إذا ما جرت تلك الصفقة، وأفرج عن كل الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية مقابل الرهائن المحتجزين، فإن الحرب سوف تعد في المحصلة الأخيرة رغم ما لحق بالفلسطينيين من خسائر بشرية هائلة هزيمة سياسية فادحة لإسرائيل، التي عجزت عن تحقيق أي أهداف أخرى.
خامس مفارقة، أن إدارة «بايدن»، التي راهنت على الحرب في أوكرانيا لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا تؤكد قيادتها المنفردة للنظام الدولي، تجد نفسها أمام سؤال استراتيجي صعب: أيهما أهم للمصالح الأمريكية العليا.. كسب حرب أوكرانيا.. أم إنقاذ إسرائيل من أي تداعيات تنال من أدوارها في الشرق الأوسط. هناك شبه إجماع بين الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري في مجلس النواب على دعم إسرائيل، ورئيسه الجديد «مايك جونسون»، المقرب من «ترامب»، يميل إلى التخفف من أعباء الحرب الأوكرانية.
يستلفت الانتباه هنا أن أخبار الحرب الأوكرانية تكاد تكون اختفت من على الشاشات. هذا مؤشر إضافي يصب لصالح روسيا وحليفتها الصين في الصراع على مستقبل النظام الدولي.
سادس مفارقة، استحالة الجمع في سياسة واحدة بين الاعتبار الإنساني، الذي يستدعي إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بصورة مستدامة لإنقاذ حياة أكثر من مليوني فلسطيني وتوفير الحماية الكاملة لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل.
مانعت الولايات المتحدة في استصدار قرار دولي من مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار بذريعة أنه يصب في صالح «حماس»، فيما تبنت المجموعة العربية توجها مختلفا يقترب من الموقفين الروسي والصيني.
في الجمعية العامة تلقت أمريكا ومعها إسرائيل هزيمة سياسية باستصدار قرار دولي غير ملزم بهدنة إنسانية بأغلبية (120) دولة. يستلفت الانتباه هنا أن روسيا لقت هزيمة مماثلة في الجمعية العامة عندما عجز مجلس الأمن عن استصدار قرار دولي بإدانة تدخلها في أوكرانيا. نحن الآن أمام هزيمة عكسية، وهذه أوضاع تؤشر إلى تغييرات مقبلة بحسابات المصالح المتنازعة في الشرق الأوسط وفى بنية النظام الدولي.
سابع مفارقة، أن الخيارات الأمريكية التي تفتقر إلى أي تبصر بالنتائج والتداعيات، أفضت إلى ردات فعل عكسية بين الحلفاء الإقليميين المفترضين، كمصر والأردن وتركيا أخيرا. وهذه مسألة أقرب إلى النزيف الداخلي في أوزان دولة كانت عظمى.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك