سنغافورة، هي جزيرة صغيرة وتُصنَّف عالمياً ضمن الدول الجزرية، فلا تزيد مساحتها على 729 كيلومتراً مربعاً، أي أصغر من مساحة البحرين، وتقع معظمها على مستوى سطح البحر، وأعلى قمة تبلغ 177 متراً فوق سطح البحر.
ولذلك فإن هذه الجزيرة تعاني من جهة من شحٍ شديد في الأراضي لا تتناسب ولا تتماشى مع طموحاتها التنموية المتزايدة المشهودة على المستوى الدولي، ومن جهة أخرى تقع تحت وطأة الارتفاع الكبير في عدد السكان الذي وصل إلى زهاء 6 ملايين نسمة، وبذلك تُعد هذه الجزيرة الصغيرة من أعلى دول العالم كثافة سكانية، حيث تبلغ الكثافة السكانية نحو 8.3 نسمة لكل كيلومتر مربع.
ومن أجل مواجهة تحديات الفقر الحاد في الأراضي مقارنة بالأنشطة التنموية المطردة، وتلبيةً للاحتياجات السكنية المتزايدة، فإن سنغافورة اتجهتْ إلى البحر لزيادة مساحة اليابسة والامتداد والتوسع في المساحة الجغرافية للجزيرة الضيقة. وتُشير التقديرات المنشورة في «البلومبيرج» في 10 أكتوبر 2023 إلى أنها أضافت مساحات كبيرة نسبياً إلى أرضها، وتعتزم النمو أكثر في مساحة اليابسة، فتضيف قرابة 4% إلى مساحتها الحالية بحلول 2030.
وقد أقامت هذه الجزيرة معظم مرافقها التنموية المكلفة من ناطحات السحاب وغيرها، إضافة إلى الكثير من معالمها التاريخية والرمزية التي تعتز بها وتفتخر بوجودها على هذه المناطق المدفونة، أو على الأراضي الطبيعية المنخفضة أصلاً.
وفي البداية لم تكن هناك أي مشكلة تُذكر من إنشاء كل هذه المرافق على الأراضي الساحلية المنخفضة، ولم يخطر على بالهم قط أنهم سيضطرون إلى دفع مبالغ باهظة تزيد على كلفة إنشائها من أجل حماية كل هذه المكتسبات التنموية لعقود طويلة من الزمن، وبهدف استدامة الحفاظ عليها وعطائها لهذا الجيل والأجيال اللاحقة.
فقضية التغير المناخي لم تخطر على بال أحد قبل أكثر من خمسين عاماً، ولم يتوقع أحد أنها ستصبح أكثر القضايا تعقيداً وأشدها صعوبة في العلاج، فهي ليست قضية ذات أبعادٍ بيئية فحسب حتى يتجاهلها كالعادة أصحاب السلطة والنفوذ، وإنما تحولت إلى الآن إلى غول عظيم يهدد استدامة الكرة الأرضية برمتها، حيث أصبحت لها تداعيات مركبة، منها صحية واجتماعية واقتصادية، ومنها سياسية وأمنية ومرتبطة بأمن الطاقة على المستوى الدولي.
فمن الحقائق العلمية المشهودة الآن هي أن للتغير المناخي تداعيات كثيرة في قطاعات مختلفة، منها سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، ومنها ارتفاع حرارة مياه البحار وازدياد حمضيتها، ومنها ارتفاع مستوى سطح البحار ووقوع الفيضانات الشديدة غير الطبيعية التي لم يرها الإنسان ولم يسجلها في تاريخه من ناحية قوتها وشدتها، ومن ناحية اتساع رقعة تأثيرها الجغرافي.
ولذلك مع الارتفاع المطرد سنوياً في مستوى سطح البحار في جميع أرجاء كوكبنا، أصبحت جميع المرافق التنموية المنخفضة والواقعة على مستوى بسيط فوق سطح البحر مهددة بالتدمير الشامل والزوال التام نتيجة للأعاصير العقيمة، والفيضانات العصيبة التي تضرب السواحل، إضافة إلى الارتفاع غير المسبوق في تيارات وأمواج المد البحري.
فهذه الحالة غير المتوقعة ألزمت سنغافورة خاصة والدول الجزرية عامة بالتخطيط لحماية مكتسباتها التنموية التي شيدتها خلال مائة عام، حيث أعلنت أن المرافق التي تحتاج إلى الحماية من مخاطر التغير المناخي وتهديدات ارتفاع مستوى سطح البحر كلفت الدولة والقطاع الخاص أكثر من 50 بليون دولار. وقال رئيس الوزراء السنغافوري حول هذه التهديدات الحالية والمستقبلية: «هذه أمور تعتبر حياة أو موت بالنسبة لنا، وكل شيء يجب أن يصب في حماية وجود جزيرتنا». كما أكد قائلاً: إننا نحتاج إلى صرف وإنفاق ما لا يقل عن 100 بليون دولار خلال المائة سنة القادمة لحماية المنشآت من ارتفاع مستوى سطح البحر، وحالياً خصصت الدولة 5 بلايين دولار في صندوق خاص لحماية السواحل من الفيضانات، كما أسست معهداً مختصاً لمواجهة هذا التحدي الحالي، والتهديد القادم لا محالة، تحت مسمى «معهد حماية السواحل والقدرة على مواجهة الفيضانات» (Coastal Protection and Flood Resilience Institute). ومن الحلول التي تُستخدم حالياً هي بناء الجدران الخرسانية لحماية السواحل، وبناء السدود التي تحتوي على مضخات كبيرة لسحب المياه، والاستفادة من الخبرات الهولندية في هذا المجال مثل استصلاح بعض الأراضي البحرية، إضافة إلى الجمع بين الحلول الصناعية مع الحلول الطبيعية من خلال تعزير وتطوير الاستفادة من الحواجز والموانع البحرية الطبيعية كأشجار القرم، والحشائش، والشعاب المرجانية التي تعمل على تكسير الأمواج وخفض شدتها ومنع تعرية السواحل.
وهذه الحالة السنغافورية تنطبق على البحرين إلى حدٍ بعيد للتشابه الكبير بين الجزيرتين، فقد حذَّر التقرير المنشور من المجلس الأعلى للبيئة في يوليو 2020 تحت عنوان: «البلاغ الوطني الثالث لمملكة البحرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغير المناخي»، من واقعية وخطورة هذه الحالة السنغافورية على البحرين، حيث جاء في الملخص التنفيذي للتقرير: «يُعد ارتفاع مستوى سطح البحر أحد الآثار الرئيسة والأكيدة لتغير المناخ. وكما هو الحال في جميع الدول الجزرية الصغيرة النامية، يُشكل ارتفاع مستوى سطح البحر في البحرين خطراً على سواحل الجزر الست الرئيسية، والتي يتمركز عليها معظم سكان المملكة، وتتواجد بها البنى التحتية، وحالياً تتركز في المناطق الساحلية التي يقل ارتفاعها عن 5 أمتار عن مستويات سطح البحر كثافة سكانية عالية». كما صرح مسؤول في المجلس الأعلى للبيئة في 17 أغسطس 2023 بأن: «البحرين معرضة للمخاطر البيئية وإن التهديد الرئيسي هو تهديد صامت، وهو ارتفاع مستوى سطح البحر».
فمن الواضح إذن أن التهديدات المناخية واقعية ومشهودة وبالتحديد على المكتسبات التنموية الساحلية، ولذلك تُنفق سنغافورة وباقي دول العالم المليارات من الدولارات لحماية هذه المرافق الساحلية التي أنفقت على بنائها أيضاً المليارات من الدولارات. فما خططنا وبرامجنا التنفيذية في البحرين لحماية سواحلنا ومرافقها؟
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك