«الحيوانات البشرية».. اللغة الدنيئة وراء الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.
إن مفردات ما بعد 7 أكتوبر 2023م التي استخدمها الإسرائيليون، وكذلك العديد من الأمريكيين معهم، خلقت المناخ اللازم للرد الإسرائيلي الوحشي الذي أعقب ذلك.
«التوتسي صراصير. سوف نقتلكم».
العرب مثل «الصراصير المخدرة في الزجاجة».
كان الاقتباس الأول عبارة عن سطر تكرر بشكل دائم من قبل محطة راديو وتلفزيون «ليبر دي ميل كولين»، وهي محطة إذاعية رواندية، والتي يُلقى عليها اللوم إلى حد كبير بالتحريض على الكراهية تجاه جماعة التوتسي وما حدث بعد ذلك من عمليات إبادة.
أما العبارة الثانية فهي مأخوذة من كلام رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السابق الجنرال رافائيل إيتان في عام 1983، وهو يتحدث أمام لجنة في البرلمان الإسرائيلي.
لقد عملت محطة الإذاعة المفعمة بالكراهية في رواندا مدة عام واحد فقط (1993-1994)، إلا أن نتيجة التحريض منها أسفرت عن واحدة من أكثر الأحداث حزناً ومأساوية في تاريخ البشرية الحديثة: أعني الإبادة الجماعية للتوتسي.
قارن «إذاعة الإبادة الجماعية» بالدعاية الإسرائيلية – الأمريكية – الغربية الضخمة، التي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم تقريبًا باستخدام لغة مماثلة لتلك التي تستخدمها وسائل الإعلام التابعة لعصابات الهوتو الذين أبادوا مئات الآلاف من السكان التوتسي.
ويبدو أن كثيرين ينسون أن الخطاب الصهيوني الإسرائيلي – قبل وقت طويل من حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023م، بل وحتى قبل وقت طويل من إنشاء إسرائيل ذاتها في عام 1948- كان يدور دائماً حول العنصرية، والتجريد من الإنسانية، والمحو، وفي بعض الأحيان، يدور حول الإبادة الجماعية الصريحة.
إذا أردنا اختيار أي فترة من التاريخ الإسرائيلي بشكل عشوائي لفحص الخطاب السياسي المنبثق من المسؤولين والمؤسسات وحتى المثقفين الإسرائيليين، فعلينا أن نصل إلى نفس النتيجة: لقد قامت إسرائيل دائمًا ببناء خطاب من التحريض والكراهية، ما يجعل مسألة إبادة الفلسطينيين قضية ثابتة.
وفي الآونة الأخيرة فقط، أصبحت نية الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت نير الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي هذه واضحة لكثير من الناس في شتى مناطق العالم.
وقال خبراء الأمم المتحدة في بيان صدر في يوم 19 أكتوبر 2023م: «هناك... خطر حدوث إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني». لكن «خطر الإبادة الجماعية» هذا لم ينشأ من الأحداث الأخيرة ولم يكن وليد اليوم.
والحقيقة أن الأعمال السياسية أو العسكرية الفعّالة في أي مكان في العالم لا تكاد تتم من دون تصريح من النص واللغة يسهل تلك الأعمال ويبررها ويكسوها برداء من العقلانية. إن تصور إسرائيل للفلسطينيين هو مثال نموذجي لهذا الادعاء.
قبل قيام دولة إسرائيل سنة 1948، كان الصهاينة ينكرون أصلا وجود الفلسطينيين. لا يزال الكثيرون يفعلون ذلك حتى اليوم بل إنهم أوغلوا في ذلك.
وعندما يكون الأمر كذلك، يصبح من المنطقي أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل، في عقلها الجماعي، لا يمكن أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن قتل أولئك الذين لم يوجدوا على الإطلاق في المقام الأول.
وحتى عندما يتم ذكر الفلسطينيين في الخطاب السياسي الإسرائيلي، فإنهم يتحولون إلى «حيوانات متعطشة للدماء»، أو «إرهابيين»، أو «صراصير مخدرة في زجاجة».
سيكون من المناسب للغاية وصف هذا بأنه مجرد «عنصري». وعلى الرغم من أن العنصرية فاعلة هنا، إلا أن هذا الشعور بالتفوق العنصري لا يوجد لمجرد الحفاظ على نظام اجتماعي سياسي، حيث يكون الإسرائيليون أسيادًا والفلسطينيون عبيدا. إن الصور أكثر تعقيدًا بكثير.
وبمجرد أن عبر المقاتلون الفلسطينيون من غزة إلى الحدود الجنوبية لإسرائيل، وقتلوا المئات، لم يبد أي سياسي أو محلل أو مثقف إسرائيلي واحد أي اهتمام بتنزيل هذا العمل الجريء في سياقه التاريخي.
إن لغة ما بعد 7 أكتوبر 2023م التي استخدمها الإسرائيليون، وكذلك العديد من الأمريكيين معهم قد خلقت إذا المناخ اللازم للرد الإسرائيلي الوحشي الذي أعقب ذلك.
أفادت تقارير أن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الأيام الثمانية الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة تجاوز عدد الضحايا الذين قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية الأطول والأكثر تدميرا على القطاع، والتي أطلق عليها اسم «الجرف الصامد»، في عام 2014.
ووفقاً للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين، يُقتل طفل فلسطيني كل 15 دقيقة، ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية فإن أكثر من 70% من إجمالي الضحايا في قطاع غزة هم من النساء والأطفال.
وبالنسبة إلى إسرائيل، لا يهم أي من هذه الحقائق. وفي ذهن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوج، الذي يُنظر إليه غالباً على أنه «معتدل»، فإن «الخطاب حول عدم مشاركة المدنيين ليس صحيحاً على الإطلاق». إنهم أهداف مشروعة، ببساطة لأنه «كان بإمكانهم الانتفاض، وكان بإمكانهم القتال ضد هذا النظام الشرير»، في إشارة إلى حركة حماس.
لذلك، فإن «الأمة بأكملها هي المسؤولة»، بحسب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي وعد بالانتقام بأكبر قوة ممكنة.
وأوضح أرييل كالنر، عضو حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، هدف إسرائيل من وراء حرب غزة حيث قال: «الآن هناك هدف واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 1948».
نفس المشاعر نقلها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الرجل المسؤول عن ترجمة إعلان الحرب الإسرائيلي إلى خطة عمل: «نحن نقاتل حيوانات بشرية وسنتصرف وفقًا لذلك».، يعني أنه «لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود. كل شيء مغلق». وبالطبع آلاف القتلى من المدنيين.
وبما أن السلطات السياسية العليا في إسرائيل قد أعلنت بالفعل أن جميع الفلسطينيين مسؤولون بشكل جماعي عن أحداث 7 أكتوبر 2023م، فإن هذا يعني أن جميع الفلسطينيين، حسب تقييم غالانت، «حيوانات بشرية»، لا تستحق أي رحمة.
وكما كان متوقعاً، انضم أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى إلى الجوقة، مستخدمين أيضاً اللغة الأكثر عنفاً وتجريداً من الإنسانية، وبالتالي ترسيخ الخطاب السياسي الإسرائيلي السائد بين الناس العاديين.
وقالت نيكي هيلي، المرشحة للرئاسة الأمريكية، لشبكة فوكس نيوز في 10 أكتوبر 2023م، إن هجوم حركة حماس لم يكن فقط على إسرائيل، بل «هو هجوم على أمريكا نفسها». عندها أدلت بتصريحها الشرير، وهي تنظر مباشرة إلى الكاميرا، «نتنياهو، أنهيهم، أنهيهم… أنهيهم!».
على الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن لم يستخدما نفس الكلمات بالضبط، إلا أنهما أجريا مقارنات بين أحداث 7 أكتوبر وهجمات 11 سبتمبر الإرهابية. والمعنى الكامن وراء هذا لا يحتاج إلى تفصيل.
من جانبه، حشد السيناتور الأمريكي ليندسي جراهام المؤيدين الأمريكيين المحافظين والمتدينين، وأعلن في 11 أكتوبر، على قناة فوكس نيوز أيضًا، «نحن في حرب دينية هنا... افعلوا كل ما يتعين عليكم فعله بحق الجحيم... تسوية المكان» – في إشارة إلى قطاع غزة والأكثر من ذلك، كانت اللغة الشريرة بالقدر نفسه، ولا تزال، تُنطق. ويتم بث النتيجة على مدار الساعة. إسرائيل «تقضي» على السكان المدنيين في غزة، فهي «تسوي» آلاف المنازل والمساجد والمستشفيات والكنائس والمدارس بالأرض. وهي تنتج بالفعل حلقة مؤلمة أخرى من حلقات النكبة.
من مقولة «الفلسطينيون لا وجود لهم» لغولدا مائير (1969) إلى مقولة مناحم بيغن «الفلسطينيون هم وحوش تمشي على قدمين» (1982)، إلى مقولة إيلي بن دهان «الفلسطينيون مثل الحيوانات، ليسوا بشرًا» (2013)، إلى العديد من العبارات، وغيرها من الإشارات العنصرية والمهينة – يتأكد لنا أن الخطاب الصهيوني واحد راسخ ولم يتغير.
والآن، أصبح كل شيء معًا، وأصبحت اللغة والفعل في تناغم تام. ربما حان الوقت للبدء في الاهتمام بكيفية ترجمة لغة الإبادة الجماعية الإسرائيلية إلى إبادة جماعية فعلية على الأرض. ومن المؤسف أن هذا الوعي جاء متأخراً للغاية بالنسبة إلى آلاف المدنيين الفلسطينيين.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك