ما إن أعلنت «إسرائيل» الحرب على قطاع غزة حتى سارعت الولايات المتحدة، ومعها معظم دول أوروبا الغربية، إلى إعلان تأييدها المطلق وغير المشروط لكل ما تتخذه حليفتها من إجراءات لتحقيق انتصار حاسم فيها، بل إن هذه الدول لم تكتفِ بتقديم دعم سياسي ومعنوي وكل ما تستطيع من أشكال الدعم المادي أيضاً، بما في ذلك شحن كميات هائلة من أكثر أنواع الأسلحة والعتاد الحربي تطوراً في ترسانتها العسكرية، إنما قامت أيضاً بإرسال حاملات طائرات وقطع بحرية لتكون قريبة من شواطئ فلسطين المحتلة تحسبًا لأي تطورات مفاجئة.
أكثر الأمور إثارة للاستغراب هنا هو إصرار هذه الدول على مشروعية هذه الحرب استناداً إلى «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وفقاً لنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تتيح لكل الدول الأعضاء إمكانية اللجوء إلى القوة للرد على أي اعتداء يقع على أي منها.
معنى ذلك أن الولايات المتحدة والدول الغربية ترى أنّ «إسرائيل» تعرضت لعدوان يوم 7 أكتوبر الحالي، حين قامت حماس بشن عملية «طوفان الأقصى»، ومن ثم أصبح لها كل الحق في أن ترد عليه بكل ما في حوزتها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة. وفي تقديري، هذا منطق معوج، ولا يستقيم بتاتا مع أي قراءة صحيحة أو موضوعية لنص الميثاق أو لروحه.
ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة للدفاع عن النفس يحرم في الوقت نفسه اللجوء إليها لاحتلال أراضي الغير، ويعترف للشعوب كافة بالحق في تقرير مصيرها واختيار مستقبلها، وبالتالي يجيز لحركات التحرر الوطني أن تحمل السلاح لتحرير أوطانها المحتلة ولتمكين شعوبها من ممارسة حقها في تقرير مصيرها.
ولأن «إنماء العلاقات الودية بين الشعوب» هو أحد أهم الأهداف التي يسعى ميثاق الأمم المتحدة إلى تحقيقها، لم يكتفِ الميثاق بالنص في أكثر من موضع على حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنه أكد في الوقت نفسه أن تمكين الشعوب من ممارسة هذا الحق يعد شرطاً ضرورياً ومسبقاً لتحقيق هذا الهدف النبيل.
لذا، من حقنا، في سياق كهذا، أن نتساءل عمن يستحق التعامل معه كمعتدٍ وعمن يستحق التعامل معه كضحية، إذ لا يجوز أخلاقياً وقانونياً أن ننظر إلى الطرف الذي يحمل السلاح دفاعا عن شعب تم اقتلاعه من وطنه بالقوة المسلحة وتشريده ودفعه قسراً إلى العيش مشرداً في خيام المنافي كمعتدٍ، كما تدَّعي الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية هذه الأيام، في الوقت الذي ننظر إلى الطرف المحتل الذي يمارس التوسع الاستيطاني والتفرقة العنصرية باعتباره الضحية؟ وحين يستخدم المحتل القوة لتكريس احتلاله لأراضي الغير، فلا يجوز مطلقاً أن نعتبر سلوكه في هذه الحالة عملاً مشروعاً ودفاعاً عن النفس؟
ولأنه ليس من المنطق أبداً أن نتعامل مع منظمة حصلت على ثقة أغلبية الشعب الفلسطيني في انتخابات 2006 باعتبارها «كياناً إرهابياً»، فينبغي للمجتمع الدولي أن يتعامل معها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حركة تحرر أوسع تضم فصائل أخرى متنوعة الأطروحات والتوجهات.
ولا يحق لأحد أن يتغاضى عن الجرائم التي ارتكبتها «إسرائيل»، ولا تزال ترتكبها، بحق المدنيين الفلسطينيين منذ إعلان تأسيس «الدولة» اليهودية عام 1948 وحتى الآن.
وإذا تغاضينا عن المجازر التي ارتكبتها «إسرائيل» طوال الأعوام الـ75 الماضية، فهل يجوز أن نتغاضى أيضاً عن الانتهاكات التي ارتكبتها حكومة «إسرائيل» الحالية التي تشكلت منذ أقل من عام، وخصوصاً أن سجلها في الانتهاكات التي يجرمها القانون الدولي يفوق سجل أي حكومة أخرى في تاريخ «إسرائيل».
يكفي أن نشير هنا إلى عدد المستوطنات التي بنتها هذه الحكومة، وعدد البيوت التي هدمتها، وعدد المعتقلين الذين زجت بهم داخل غياهب السجون، وعدد الاعتداءات التي ارتكبها المستوطنون، وعدد الاقتحامات التي قام بها هؤلاء المستوطنون للأماكن المقدسة تحت حراسة قوات الجيش والشرطة، بل وإصرارهم على هدم المسجد الأقصى وبناء «الهيكل الثالث» مكانه، كي نخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها حماس كانت أقرب ما تكون إلى رد الفعل منها إلى الفعل، وأن فشل مؤسسات المجتمع الدولي، وخصوصاً مجلس الأمن، في لجم التطرف الإسرائيلي أغرى حكومتها الحالية على التمادي في ارتكاب أبشع أنواع الانتهاكات، ومن ثم ينبغي لها أن تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عما حدث وما قد يحدث مستقبلا.
أخلص مما تقدّم إلى أنه يستحيل على أي مراقب منصف يتحلى بأي قدر من الموضوعية والنزاهة أن يرى في الحرب التي تشنها «إسرائيل» على قطاع غزة عملاً من أعمال الدفاع الشرعي عن النفس.
وحتى إذا اعتبرنا أن عملية «السيوف الحديدية» التي بدأتها «إسرائيل» منذ نحو 3 أسابيع ولم تكتمل بعد هي رد فعل على عملية «طوفان الأقصى»، فمن المسلم به أن لكل حرب، دفاعية كانت أم عدوانية، ضوابط يحددها القانون الدولي، في مقدمتها ضرورة مراعاة التماثل بين حجم القوة المستخدمة عند ممارسة الفعل أو رد الفعل.
من الثابت أن عملية «طوفان الأقصى» أدَّت، وفقاً للمصادر الإسرائيلية نفسها، إلى خسائر في الأرواح بلغ مجموعها ما يقارب 2000 شخص ما بين قتيل ومفقود وأسير، ونحو 5000 جريح، منهم نحو 1200 جندي معوّق، كما أدت إلى تدمير الفرقة العسكرية المسؤولة عن قطاع غزة، وكلها مؤشرات توحي بأن هدفها الرئيسي كان عسكرياً في المقام الأول، رغم أنه أدى في الوقت نفسه إلى سقوط كثير من المدنيين هم في حقيقة الأمر، من وجهة النظر الفلسطينية على الأقل، مستوطنون مغتصبون.
أما عملية «السيوف الحديدية» التي لا تزال مستمرة حتى الآن، فقد أدت إلى وفاة ما يقارب 7000 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، ودمرت أو أتلفت ما يقارب 20 ألف وحدة سكنية، وأصابت بأضرار ما يقارب نصف المباني السكنية للقطاع ككل، وأجبرت أكثر من مليون شخص على النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، ما يقطع بأنها عملية موجهة أصلاً إلى المدنيين، وليس إلى مقاتلي حماس، وأنها تستهدف في المقام الأول إخلاء قطاع غزة بأكمله من السكان ودفعهم إلى الرحيل قسراً إلى سيناء، ما يؤكد أننا إزاء عملية إبادة جماعية مصحوبة بترحيل قسري للفلسطينيين، وكلها تدخل في عداد جرائم الحرب.
تشير المسيرة التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي إلى أن «إسرائيل» برعت دائما في تحويل أزماتها إلى فرص تتيح لها إنجاز مشروعها الصهيوني التوسعي الذي لم يكتمل بعد؛ ففي عام 1948، استغلت الأزمة الناجمة عن دخول الجيوش العربية حلبة الصراع لمساندة الشعب الفلسطيني، وحولتها إلى فرصة مكنتها من التوسع والسيطرة على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، بعدما كان نصيبها في مشروع التقسيم لا يتجاوز 56%.
ولو كانت «إسرائيل» تريد السلام حقاً، لاستغلت محادثات الهدنة التي جرت عام 1949 للتوصل إلى تسوية دائمة على أساس قرار التقسيم. وعام 1967، استغلت الأزمة الناجمة عن إغلاق مضيق تيران وقامت بتحويلها إلى فرصة مكنتها من احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، إضافة إلى الجولان السورية وسيناء المصرية.
وكان بإمكان «إسرائيل» مرة أخرى مقايضة الأراضي الجديدة التي احتلتها عام 67 بمعاهدات سلام حقيقية مع الدول العربية تسمح لها بالاحتفاظ بـ78% من أراضي فلسطين التاريخية وإقامة دولة فلسطينية على 22% فقط من هذه الأراضي، لكنها رفضت كل صيغة للسلام تقوم على مبدأ «الأرض مقابل السلام».
وتسعى «إسرائيل» في هذه الأيام لتحويل الأزمة الناجمة عن عملية «طوفان الأقصى» إلى فرصة تتيح لها إبعاد سكان غزة قسراً إلى سيناء، ثم التفرغ بعد ذلك لسكان الضفة لإبعادهم قسراً إلى الأردن، ما سيسمح لها عملياً بتصفية القضية الفلسطينية.
ولا شك في أن مسارعة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية إلى تبني وجهة نظر إسرائيلية تدّعي أن حماس لا تختلف عن «داعش»، وأن «طوفان الأقصى» لا يختلف عن أحداث سبتمبر 2001، ثم مشاركة الرئيس بايدن بنفسه في الترويج لرواية إسرائيلية تدَّعي أن مقاتلي حماس قاموا باغتصاب النساء وقطع رقاب الأطفال، لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي دفع «إسرائيل» نحو المزيد من التطرف والتمسك بتحقيق أحلامها التوسعية، وخصوصاً إذا نجحت ولو جزئيا في تحقيق أهدافها الرامية إلى إضعاف حماس وزعزعة حكمها في القطاع.
ذلك كله ليس سوى أضغاث أحلام، لأن الأوضاع الإقليمية والدولية السائدة حالياً تبدو مختلفة كلياً عن كل الأوضاع التي اتسمت بها مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي في كل تاريخها، فلأول مرة في تاريخ هذا الصراع تنجح حركة فلسطينية مقاومة في كسر وإسقاط هيبة «الجيش» الإسرائيلي، ومن خلال عملية عسكرية فريدة من نوعها تولت بنفسها التخطيط لها وتنفيذها بالكامل.
وفي تقديري أيضاً، إن «الجيش» الإسرائيلي لن يتمكن مطلقاً من استعادة هيبته المفقودة، مهما تمادى في الانتقام من الشعب الفلسطيني الأعزل. وعلى الأرجح أن يؤدي هذا السلوك المتوحش إلى سقوط الأقنعة، ليس عن «إسرائيل» وحدها، ولكن عن الغرب الذي بدأ عصر أفوله يظهر إلى العيان بكل وضوح.
{ أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك