أشرت في المقال السابق إلى الأهمية الاستراتيجية للممرات المائية الدولية التي تربط بين مناطق العالم المختلفة وتمثل شرايين للتجارة العالمية والتي ازداد الاعتماد عليها خلال العقود الماضية في النقل البحري ويتوقع أن يزداد مستقبلاً، وكانت خلاصة المقال إن هناك مصلحة مشتركة لدول العالم كافة بالإبقاء على تلك الممرات مفتوحة للملاحة العالمية دون معوقات، ومع أهمية ذلك فإن ذلك لا يحول دون احتدام المنافسة الدولية بالقرب من تلك الممرات، بل إن استراتيجيات الأمن القومي للقوى الكبرى والمنظمات الدفاعية مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو» لم تخل من الحديث عن تأمين الملاحة البحرية سواء في النطاق الإقليمي أو المناطق البعيدة، ومن ثم فإن جل هذا المقال هو محاولة الإجابة عن تساؤلات ثلاثة الأول: كيف انعكس الاهتمام الدولي بالممرات المائية الدولية على استراتيجيات الأمن القومي لتلك الدول؟ والثاني: ما تأثير الصراع حول الممرات المائية في تأسيس شراكات وتحالفات لحماية الملاحة البحرية؟ والثالث: في ظل ذلك الاهتمام المتزايد بالممرات المائية الدولية هل تكفي تلك الجهود الدولية لحماية هذه الممرات ضد التهديدات التي تواجه الملاحة البحرية فيها؟
قبل عقدين من الزمان لم نجد كثيرا من الاهتمام الدولي بإصدار استراتيجيات منفصلة للأمن البحري لسببين الأول: إن استراتيجيات الأمن القومي كانت تدور في المقام الأول عن التهديدات التقليدية التي تواجه الدول الكبرى في سياق بيئتها الإقليمية مع الإشارة على استحياء لتهديدات الأمن البحري في المناطق البعيدة، والثاني: إن الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة لم يكن هناك احتدام للصراع حول الممرات البحرية كما هو عليه الحال الآن.
إلا أنه مع تطور النظام العالمي ذاته ومحاولات بعض الدول الكبرى ممارسة دور ضمن ذلك النظام فقد بدا واضحاً أن الممرات المائية أضحت جزءا مهماً من استراتيجيات الأمن القومي لتلك الدول، فعلى سبيل المثال أعلنت الولايات المتحدة في عام 2022 استراتيجية الولايات المتحدة للمحيط الهندي والهادئ وكان مضمونها الحفاظ على تلك المنطقة «منطقة حرة ومفتوحة وآمنة» ويمكن تحقيق ذلك من خلال تحالفات الولايات المتحدة وشراكاتها مع دول تلك المنطقة وكان لافتاً في تلك الاستراتيجية أمران الأول: توسيع وجود خفر السواحل الأمريكي والتعاون ضد التهديدات العابرة للحدود الوطنية الأخرى، والثاني: العمل مع الكونجرس لتمويل مبادرة ردع المحيط الهادئ ومبادرة الأمن البحري، أما العقيدة البحرية الروسية الصادرة عام 2022 بالرغم من أنها تطوير لاستراتيجيات بحرية سابقة لروسيا ولكنها تضمنت أمرين أولها: أن الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط يعد مهماً لضمان الأمن القومي لروسيا، وثانيهما: أهمية وجود نقاط ضمان لوجستية- فنية في البحر الأحمر، ولا شك أن ذلك يتضمن رؤية روسية لتأمين المضائق البحرية ذات الصلة بهاتين المنطقتين، بالإضافة إلى تضمين أمن الممرات المائية ضمن استراتيجيات الأمن القومي للدول الأخرى ومنها الاستراتيجية الأولى للأمن القومي لألمانيا في عام 2023 وكذلك إشارة بعض الاستراتيجيات الأخرى لتلك القضية.
واتصالاً بما سبق فإن الممرات المائية أضحت جزءًا أيضاً من التنافس الدولي ليس فقط بالنسبة إلى المشروعات الاستراتيجية التي تتضمن بعداً بحرياً مثل مبادرة الصين للحزام والطريق أو الممر الاقتصادي بين آسيا والهند وأوروبا مروراً بالخليج العربي وإنما في وجود العديد من القوى بالقرب من تلك الممرات حتى تلك التي لم يكن لديها اهتمام بالوجود العسكري في الخارج، فعلى سبيل المثال تضم منطقة القرن الإفريقي 19 قاعدة عسكرية تديرها 16 دولة، وتتمثل الأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة في كونها تشرف على ثلاث مناطق مائية حيوية وهي البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي ومن خلالها يمكن التحكم في مضيق باب المندب أحد أهم الممرات المائية في العالم، من ناحية ثانية فإن التهديدات التي شهدتها الممرات المائية في منطقة الخليج العربي وخاصة مضيقي هرمز وباب المندب منذ عام 2019 وحتى الآن كانت سبباً في اهتمام القوى الكبرى بتأسيس آليات جماعية لتأمين الملاحة البحرية من خلال إعلان الولايات المتحدة تأسيس التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة البحرية في الخليج العربي ويضم إلى جانبها 6 دول، فضلاً عن إعلان فرنسا بدء مهمة بحرية أوروبية في مضيق هرمز بهدف ضمان حرية الملاحة في الخليج العربي بدعم ثماني دول أوروبية في يناير 2020.
ويبقى التساؤل: في ظل ذلك الاهتمام العالمي بالممرات المائية سواء من خلال الاستراتيجيات أو التحالفات هل يكفي ذلك للقول بأن هناك أدوات ردع حقيقية تجاه أي تهديدات محتملة للممرات المائية أم أن ذلك يعتمد على كل حالة على حدة وتقييم طبيعة الخطر؟ بالعودة إلى الماضي نجد أن تأمين تلك الممرات قد ارتبط أيضاً بالصراع والتنافس وكذلك المصالح الحيوية للدول الكبرى وخاصة تدفق النفط، فقد كان واضحاً أن قرار إدارة الرئيس ريجان تأسيس تحالف بحري غربي لتأمين ناقلات النفط الخليجية خلال الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات جزء منه يمكن تفسيره بأمن الطاقة والجزء الآخر رداً على إرسال الاتحاد السوفيتي آنذاك 7 سفن للغرض ذاته، وفي تصوري أن اهتمام القوى الكبرى بتأمين تلك الممرات لا يزال جزءا من التنافس الدولي أيضاً ولكن من الصعب القول تكرار التدخل العسكري المباشر على غرار حرب الناقلات في الثمانينيات ولكن الاعتماد على الردع بشكل أكبر، ولكن تلك الجهود تواجه بثلاثة تحديات أولها: أن المعضلة ليست في التزام الدول المشاطئة لتلك الممرات بل انعكاس الصراعات الإقليمية على أمن الملاحة البحرية، والثانية: تأثير التكنولوجيا الحديثة في أمن الملاحة البحرية وهو ما أشرت إليه في مقالات سابقة بما يعنيه ذلك من ضرورة توظيف التكنولوجيا ذاتها في حماية الممرات البحرية، والثالثة: عدم وجود خطوط فاصلة بين ضرورات تأمين الملاحة البحرية باعتبارها قضية أمن قومي لدول العالم كافة والتنافس الدولي عموماً وبالقرب من الممرات المائية على نحو خاص.
ومع أهمية قضية تأمين الممرات البحرية باعتبارها ضمن استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى فإنها في تقديري قضية يتقاطع فيها الأمن الوطني مع نظيريه الإقليمي والعالمي بما يعنيه ذلك من أن الحديث عن نجاح الجهود الدولية في هذا الشأن سوف يظل مرتبطاً على نحو وثيق بالبيئة الأمنية الإقليمية من ناحية ودعم قدرات الدول التي تصنف بأنها دول بحرية من ناحية ثانية ومن بينها دول الخليج العربي كمثال بما يمكنها من التكامل مع جهود القوى الكبرى لتأمين الملاحة البحرية لأهم ممرين بحريين مائيين في العالم وهما مضيقا هرمز وباب المندب الاستراتيجيين.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك