«وفى الصباح الباكر من اليوم التالي، اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة (ريموند أجيل) في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه. وتركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع العالم، وليس معروفًا بالضبط عدد ضحاياها، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين؛ بل إن كثيرًا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث». هذا الوصف لم أقتبسه من مؤرخ عربي يصف مذابح الصليبيين في فلسطين وسوريا، وإنما اقتبسته من كتاب (تاريخ الحروب الصليبية) للمؤرخ (ستيفن رنسيمان).
ولم يكن هو فقط من تحدث عن هذه المذابح، وإنما وصف كثير من المؤرخين أحداث المذابح التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين إليها، وكيف أنهم كانوا يزهون بأنفسهم؛ لأن ركب خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين التي سالت في الشوارع، وقد كان من وسائل الترفيه لدى الصليبيين أن يشووا أطفال المسلمين كما تشوى النعاج.
يقول أيضًا: «وعمل الصليبيون مثل ذلك في مدن المسلمين التي اجتاحوها؛ ففي المعرة قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين اللاجئين في الجوامع والمختبئين في السراديب، فأهلكوا ما يزيد على مائة ألف إنسان، وكانت المعرة من أعظم مدن الشام بعدد السكان بعد أن فر إليها الناس بعد سقوط أنطاكية وغيرها بيد الصليبيين».
وفي مكان آخر من الكتاب يقول: «لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك فعقدوا مؤتمرًا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى –الذين كان عددهـم ستين ألفًا– فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستبقـوا منهم امرأة ولا ولدًا ولا شيخًا».
ولسنا هنا نريد أن نثير المواجع القديمة ونفتح الملفات المفجعة ، وإنما الذي نريد أن نقوله هو إن ما يفعله اليوم هؤلاء في غزة من قتل وحقد وكراهية، هو نفسه تم نقله من الأجداد إلى الأبناء، فهل يُرجى من الأبناء الخير والسلام؟
في كتاب قديم نوعًا ما، بعنوان (فلسطين الشهيدة) يسجل فيه المؤرخ في سجل مصور كل المذابح والفظائع التي ارتكبها الإنجليز واليهود في فلسطين فيما بين عام 1921 إلى 1938؛ يقع الكتاب في 83 صفحة يوثق فيها المؤرخ بالصور والوثائق كل تلك الجرائم التي حدثت، وذلك حتى لا يأتي أبناؤهم وأحفادهم كما يفعلون اليوم ويدعون أو يزعمون أنهم دعاة حرية وحملة الديمقراطية.
في سلسلة من الكتب المتتالية للكاتب (يوسف العاص الطويل) حول الحروب الصليبية الجديدة بعنوان (الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم – دراسات وبحوث حول التحيز الأوروبي والأمريكي لإسرائيل)، يقول في مقدمة الجزء الأول:
فهذه المدة الطويلة التي مرت على أول مرة نشرتُ بها الدراسة لم تفقدها أهميتها وموضوعيتها في تفسير ما يجري على الأرض العربية، بل أكدت الحاجة إلى إعادة نشرها وتنقيحها، وبالذات وأنها تعالج موضوعا حساسا ومصيريا للأمة العربية والإسلامية وهو أسباب تحيز أمريكا وبريطانيا السافر لإسرائيل وعداؤهما لكل ما هو عربي وإسلامي، حيث لم تكتف هاتان الدولتان بزرع إسرائيل في قلب الأمة العربية ومدها بكل أسباب الوجود، بل لجأت خلال القرن الحالي إلى محاربة وتدمير أية قوة عربية أو إسلامية يمكن أن تهدد إسرائيل، وسعتا بكل ما أوتيتا من قوة إلى تفكيك العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل، مستخدمة مبررات وألاعيب مختلفة، والتي كانت للأسف تنطلي على العرب والمسلمين مرة باسم التحرر من السيطرة العثمانية ومحاربة النازية والفاشية، وأخرى باسم محاربة المد الشيوعي والقومي، وثالثة بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخيرًا بدعوى محاربة الإرهاب.
ولسنا هنا بحاجة كبيرة إلى إمعان النظر لنتبين الدور الخبيث الذي لعبته هاتان الدولتان مجتمعتين أو منفردتين في تقسيم الدول العربية جغرافيًا وسياسيًا، ونهب ثرواتها، ومحاربة توجهاتها الوحدوية والنهضوية، ابتداءً من وعد بلفور واتفاق سايكس بيكو ومرورًا بحروب 48، و56، و67، و73، وحرب لبنان 82، حتى حرب الخليج التي دمرت خلالها القوة العسكرية والاقتصادية للأمة العربية، وفرض عليها الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل خاوية اليدين.
أما حربها الحالية ضد ما تسميه بالإرهاب التي وضعت على قائمتها 60 دولة غالبيتها العظمى إسلامية وعربية، بدأتها بأفغانستان وفلسطين والعراق، وتقف في الانتظار، دول مثل إيران وسوريا ولبنان والصومال وليبيا والسودان، وحتى دول تعتبر حليفة لأمريكا مثل السعودية ومصر.. إلخ، فالحديث عنها يطول، ويبدو أن أمريكا وبريطانيا تريدان أن تتوجا حملتهما الصليبية على العالم الإسلامي والعربي والتي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمن، بهذه الحرب الفاصلة، حيث اتخذتا من أحداث 11 سبتمبر مبررًا لشن هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان بدعوى محاربة الإرهاب. وقد قمتُ في حينه وبعد أحداث 11 سبتمبر مباشرة بنشر دراسة عن هذه الحملة في عدد من الصحف والمجلات العربية وعبر مواقع الإنترنت، بينت فيها البعد الديني لهذه الحملة وكيف أن بوش عندما أعلن أنها حرب صليبية فإنه كان يعني ما يقول حرفيًا، ولكن قامت الإدارة الأمريكية والتيار الديني الأصولي المسيحي الذي يحكم أمريكا الآن بافتعال هذه الأحداث لتبرير شن هذه الحملة على العالم الإسلامي، حيث يؤمن أتباع هذا التيار الأصولي بخرافات ونبوءات توراتية تقول بضرورة قيام معركة فاصلة بين قوى الخير والشر تسمى (هرمجيدون) في أرض فلسطين كمقدمة ضرورية لعودة المسيح المنتظر الذي سيحكم العالم من مقره في القدس.
ويحمل الكتاب في أجزائه الأربعة كثيرا من الحقائق والوثائق التي تؤكد هذا التواطؤ الدموي البغيض بين كل تلك الدول وكل أبناء الصليبيين وبني صهيون التي تدعي السلام والمحبة والديمقراطية بهدف القضاء على الإسلام والمسلمين والعرب للتحكم في العالم، والثروات، وإلغاء أي فكر وعقيدة تكشف معتقداتهم الخرافية والقائمة على الأساطير.
واليوم، كل هؤلاء وغيرهم الكثير اجتمعوا وأتوا بكل ما يملكون من بوارج حربية وطائرات وأسلحة دمار شامل، وكل أنواع الأسلحة التي ابتكرتها عقولهم العفنة وكل وسائل الإعلام المتحيزة، وخرافات الحريات والديمقراطيات ممزوجة بلون ورائحة وطعم الدم إلى هذا الجزء من العالم ليس لتدمير غزة فحسب، وإنما أتوا لتوجيه الضربة القاضية لإنهاء كل ما يمت للعالم العربي الإسلامي بصلة، وإنهاء ما بدأه أجدادهم في الحروب الصليبية وخاصة أن أبناء صلاح الدين الأيوبي في غفلة ومتابعات لمباريات كرة القدم العالمية والإقليمية وما شابه ذلك.
هؤلاء وإعلامهم الذي ما أنفك يصدع رؤوسنا بالحريات والديمقراطيات؛ فتارة يتحدثون عن حقوق وحريات المرأة، وأن تمتلك حريتها ومستقبلها بيدها، وتارة يتحدثون عن حقوق القطط والكلاب وبقية الحيوانات، وتارة يتحدثون عن حقوق الشواذ وحرياتهم المكبوتة وحقهم في اختيار الحياة التي يرغبون من غير أن يعترض عليهم أحد، وحقوق البيئة، وحقوق الشجرة، وحقوق الصخرة، وحقوق النملة، وحقوق كل شيء، ويصولون ويجولون بين تيارات الحقوق والحريات من هنا وهناك، ولكن هؤلاء أنفسهم وإعلامهم المفضوح يغضون الطرف وبكل وقاحة عن حقوق الإنسان العربي والطفل العربي والمرأة العربية التي تُقصف من غير هوادة ولا ضمير وتُقتل تحت القصف المدفعي والمباني المهدومة. أين جمعيات حقوق الطفل؟ أين جمعيات حقوق المرأة؟ أين جمعيات حقوق البيئة؟ أين جمعيات حقوق الحيوانات؟ أليست كل هذه الكائنات تموت جراء القصف اليومي في غزة؟ أم أن إنسان وحيوانات، ونباتات وبيئة هذا الجزء من العالم لا حقوق لهم؟
أين من صدع رؤوسنا بالتنمية المستدامة وضرورة تطبيقها في دول العالم؟ أين من سطر اتفاقيات حقوق المرأة واتفاقية سيداو؟ أين الأمم المتحدة؟ أين مجلس الأمن؟ كل ما نراه على شاشات التلفزيون من السابع من أكتوبر حتى اليوم مجرد ترهات وكلام مثالي وإنشائي فارغ لا يمت للواقع بصلة. ولكن في الحقيقة نحن نعلم والجميع يعلم أن الغرب بكل قوته وكل أسلحته وجيوشه بدأ يزحف خلال هذه الفترة إلى هذه الأرض، فهل فعلاً ستكون هذه الحرب هي النهاية؟
ونحن نعلم أيضًا، أن الغرب بكل أطيافه وتقسيماته وتاريخه، لا يحب هذا الجزء من العالم، لا يحب العالم العربي ولا العقيدة والفكر الإسلامي، فلماذا نكذب على أنفسنا؟ ولماذا نرتمي في أحضانهم ونقدم لهم ثرواتنا وأجيالنا بهدف تربيتهم ورعايتهم؟ وهم في المقابل يتحينون الفرصة لإلغاء هذا الجزء من العالم من خريطة العالم.
ولنقلها وهي كلمة حق، حتى وإن تراجعت المقاومة، ونرجو من الله سبحانه وتعالى ألا يحدث ذلك، فإنها لن تكون النهاية، سينبت من الأرض من يقاوم، سينبت من هذه العقيدة وسيولد أمثال صلاح الدين الأيوبي وغيرهم الكثير، فلا تعتقدوا أنها النهاية وإنما هو حق مسلوب مهما طال الزمن، ومهما حاولت المكائن والأجهزة الإعلامية العوراء أن تمسح الحقائق وتخفيها، إلا أنه حق مسلوب، والحقوق المسلوبة لابد وأن تعود يومًا ما إلى أصحابها.
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك