اليسر في الإسلام إرادة إلهية، قال تعالى: (.. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة / ١٨٥)، واليسر يغلبه عسر، قال تعالى: (فإن مع العسر يسرًا ( ٥ ) إن مع العسر يسرًا ( ٦)) الشرح. قال العلماء : لا يغلب عسر يسرين، فالعسر جاء معرفًا بالألف واللام، فيعني في الأولى والثانية عسرا واحدا، وأما اليسر فقد جاء منكرًا، وهذا يعني أن اليسر الأول غير اليسر الثاني والكلمة حين تنكر تفيد التعدد والكثرة.
هذه مقدمة لابد من البدء بها لنفضي إلى قضية من أهم القضايا التي يواجهها الًمسلم، وتتعلق بمصيره في هذه الحياة، والسؤال الذي يشغلنا، ويشغل غيرنا هو: ما الفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة البشر، وهل هما إرادة واحدة أم إرادتان؟
في عالم النيات هما إرادتان، وقد يكونان أكثر من إرادة، فالإنسان عندما يواجه موقفًا واحدًا قد تختلط عليه السبل، نعني سبل الحل للمسألة الواحدة بحسب وجهة النظر في المسألة، وهذه الحلول عبارة عن نوايا يختزنها المسلم في قلبه، وتبقى كامنة حتى يأذن الله تعالى لها بالظهور، والتجلي في واقع المسلم العملي، وقد يدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير حين تخفى عليه المآلات، يقول تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة / ٢١٦.
يقرر الحق سبحانه وتعالى حقيقة لا مجال للشك أو الإنكار فيها وحولها، يقول تعالى: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) الإسراء / ١١.
فالإنسان بهذا المعنى المختلط عليه قد يختار الشر ظنًا منه أنه يختار الخير، والعكس صحيح لجهل المآلات، وأما اختيار الحق سبحانه للعبد، فهو الاختيار الأصوب وإن تأخرت معرفة الحكمة في هذا الاختيار أو ذاك، ولذلك فمن تمام إيمان المؤمن، ومن كمال إسلامه أنه يستقبل أقدار الله تعالى بالرضا والتسليم، ويقول في جميع أحواله: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ويسلم ويصدق بأن ما أجراه الله تعالى عليه من بلاء هو من عند الله تعالى وسيعلم الحكمة من ورائه حتى يطمئن قلبه، وترتاح نفسه، ويجدد العزم على الصبر والتسليم فيما يعرض له، أو ينزل به من بلاء!، ومن أدلة ذلك في القرآن الكريم قول الحق سبحانه وتعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) الشورى / ٢٧.
إرادة الإنسان هي أن يبسط الله تعالى له في الرزق، وهو يجهل مآلات ذلك، ولكن الله تعالى العليم لا يستجيب لإرادته بل يختار له ما يصلح شأنه، وما يصلحه هو الإمساك لا البسط.. إذًا، فإرادة الله تعالى للعبد أصلح له وأنفع من إرادة العبد لنفسه، وعندما تظهر له الحكمة من ذلك يقول فرحًا جذلًا: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!، فالبسط الذي يريده العبد ويتمناه فيه الطغيان والاستبداد، أما الإمساك فإن فيه الخير والسلامة والنجاة مما يسوء من الأحوال، يقول سبحانه وتعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى (٦) أن رآه استغنى (٧)) العلق.
هذه حقائق إيمانية ينثرها الحق سبحانه بين يدي عباده المؤمنين ليعتبروا ويسلموا لله تعالى في قبول أمره ونهيه، ويلهجون لله تعالى بالحمد والتسليم في كل ما يعرض لهم، أو ينزل بهم سواء أحبوا ذلك أو كرهوه، وهذا من كمال الإيمان ورسوخه في قلب المؤمن، لذلك يجب علينا أن نقرأ الآيات التي وردت في سورة الكهف في ضوء هذه الحقائق الإيمانية والمتعلقة بالعبد الصالح الذي أصرَّ نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) على صحبته ليتعلم منه شيئًا مما علمه الله تعالى، قال سبحانه على لسان نبي الله موسى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا (٦٦) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (٦٧) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (٦٨) قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرا (٦٩)) الكهف. وهكذا أعطى نبي الله موسى (عليه الصلاة والسلام) العهود والمواثيق على الالتزام بما اشترطه عليه العبد الصالح، ثم بدأت الآيات تشرح في تفصيل ما دار بينهما من حوار ومحاجة ظهر من خلالها إرادة الله تعالى الغالبة، وإرادة نبي الله موسى المغلوبة، وتبين من خلال ما جرى بينهما أن اختيار الله تعالى لأصحاب السفينة بأنه لولا الخرق الذي أحدثه العبد الصالح في السفينة لما نجت السفينة من الحاكم الغاصب، ولو بقي الغلام حيًا حتى يكبر ويتحول إلى مجرم يتعب أبويه، وهما صالحان ثم يدخل النار، فأراد الله تعالى لهما الأنفع والأصلح ولولدهما كذلك.
إذًا، فغياب الحكمة من أفعال العباد قد يصرفهم عن الخضوع لأمر الله تعالى، وقد يظنون أن ما يريدونه ويتمنونه هو خير مما يريده الله تعالى لهم، ولو انتظروا حتى تظهر لهم الحكمة من الفعل وعدمه، فإنهم بذلك قد آمنوا بالحكمة ولَم يؤمنوا بالحكيم سبحانه.
إذًا، فهذه الآيات من سورة الكهف تشير إلى بعض تجليات الحكيم سبحانه وتعالى، وتزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا، فيثبت عنده أن قَدر الله تعالى خير من قَدر المؤمن لنفسه، وإن ظهر له ما يبدو تعارضًا بين رغبته وتمنيه، وصدق الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) حين أمرنا عندما ينزل بنا بلاءٌ أن نقول: «قَدَّر الله وما شاء فعل!» ولا نقول: لو فعلت كان كذا وكذا.. لأن لو تفتح عمل الشيطان، فليحذر المؤمن من أن تغلبه أمنياته، وتصرفه شهواته، فيندم على اختيارات الله تعالى له، فإن فيها الخير كل الخير.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك