رغم صعوبة الأيام التي نعيشها، ورغم قوة الإحساس ببشاعة الظلم الذي وصل الذروة بحرق شعبنا العربي في غزة، ورغم جيشان مشاعرنا أمام بشاعة اللاأخلاقية واللاإنسانية الغربية، وأمام الدولة الصهيونية التي لم تعد تخجل من انكشاف صورتها الحقيقية الخالية من القيم والأخلاق والإنسانية... رغم كل ما يجري اليوم من إبادة جماعية لشعبنا في غزة... ورغم مشاهد القتل الجماعي والدفن الجماعي والتجويع الجماعي للعوائل والأطفال، ومشاهد الجثث المحترقة والممزقة، والأطفال المقطعة أوصالها، والمشردين الباحثين عن ملجأ آمن، ومشاهد الآباء والأمهات المكلومين الحاملين جثامين أطفالهم تحت وابل الصواريخ الحارقة، وبين ركام الدمار الشامل في غزة... ورغم السكوت العالمي الجبان واللامبالاة الظالمة من قوى الغرب الأمريكي الأطلنطي على جبروت القوة الصهيونية، وحرب الإبادة باستخدام الأسلحة المحرمة، وأسلحة الدمار الشامل ضد شعب أعزل في غزة... ورغم صمود الحقائق لأول مرة أمام آلة الإعلام الغربي المضلل، ووضوح الحقائق أمام الرأي العام العالمي والأممي؛ ورغم قوة المعطيات التي وفرتها الحرب على غزة حول حقيقة الفراغ الاستراتيجي العربي الذي تعيشه منطقتنا عموما، والذي يُنذر بدخول المنطقة عموما في مرحلة إقليمية خطيرة وعنيفة، وغير منصفة، مع انتهاء المخاض وبدء عمليات ولادة الشرق الأوسط الجديد بأقصى درجات العنف والدمار الشامل كما ذكر رئيس وزراء الكيان الصهيوني في اليوم الأول من الحرب على غزة وتدميرها على رأس شعبها...
رغم كل هذا نحن مضطرون أن نلتزم بالعقلانية والحكمة لإكمال مسيرتنا برشد وعدالة... مضطرون أن نفكر ونحلل ونكتب لنظهر الحقيقة أمام أصحاب القرار، ونحن ملتزمون بالموضوعية في مواجهة بشاعة المشهد الذي يسود عالمنا العربي، ومضطرون أن نتماسك ولا ننجرف مع التيار الذي يحاول العدو أن يسحبنا إليه... (إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مثله وتِلْكَ الْأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شهداء وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (140 آل عمران).
أورد أدناه محتوى الورقة التي تقدمت بها في منتدى أصيلة الثقافي بدورته الرابعة والأربعين، الذي عقد في مدينة أصيلة المغربية على ضفاف المحيط الأطلسي، لدراسة وتحليل «أعباء الفراغ الاستراتيجي العربي، والمعطيات الإقليمية والدولية»، بمشاركة نخبة من المسؤولين والمفكرين والمثقفين العرب، في الفترة من 17- 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وتطرقت الورقة بإيجاز إلى محورين رئيسيين:
1. العرب والنظام الإقليمي العربي: عوامل التراجع
2. العرب والنظام الإقليمي العربي: آفاق الإصلاح
المحور الأول: العرب والنظام الإقليمي العربي: عوامل التراجع
لا يمكن اليوم الحديث عن عوامل تراجع النظام الإقليمي العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من دون الرجوع إلى فهم وتحليل أبعاد التطورات الجيوسياسية التي ضربت المنطقة العربية مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والقراءة الدقيقة لمسألة المرور تدريجيا من نظام القطبين إلى نظام عالمي جديد تميز بفرض القطبية الواحدة وبنشر العولمة الاقتصادية والثقافية بأشكالها المختلفة، بقيادة غربية أمريكية متغطرسة، وأمام غياب تام لأي دور عربي ضمن هذه المعادلة الجديدة.
زلزال غزو العراق وانعكاساته الكارثية على الأمن القومي العربي
إذ مباشرة بعد انتهاء العمل فعليا بنظام القطبين (الاتحاد السوفيتي، الغرب)، ونهاية الحرب الباردة، عملت القوى العظمى، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، على تثبيت مصالح وخطط استعمارية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية عموما، التي تحولت فعليا إلى ساحة صراع جيوسياسي، وبقيت ضمن مفهوم «المفعول به» سياسيا، جيوسياسيا واستراتيجيا، سنوات طويلة، من دون أن يسعى العرب إلى لعب أي دور استراتيجي يُذكر للمساهمة في حماية الأمن القومي العربي.
وقد اتسمت هذه المرحلة العصيبة بالانقسام وعدم التنسيق في المواقف العربية، ما أدى إلى إضعاف الدور العربي، وتسهيل الأمر على القوى الإقليمية والدولية المتصارعة جيوسياسيا، لاختراق النظام العربي الرسمي، وفرض أجنداتها السياسية على المنطقة.
أول الأجندات الكارثية التي تم تحقيقها، اتساقا مع إنهاء الدور المركزي المصري بعد توقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل، هو التخلص التدريجي من الدور العراقي، الذي كان يُعد الحصن أو السد المنيع أمام تمدد المشاريع الدولية، وسداً رئيسياً أمام تمدد الأطماع الإقليمية، في المنطقة. فكان الفراغ الأمني والعسكري في المنطقة هو النتيجة الكارثية الأكبر لسقوط العراق، بعد الغزو والاحتلال الأمريكي سنة 2003؛ النتيجة الكارثية الأكبر على المنطقة عموماً، وعلى الأمن الإقليمي العربي خصوصاً.
إن إسقاط العراق كقوة اقتصادية وثقافية وسياسية عربية من معادلة الأمن القومي العربي، كان بداية انهيار تدريجي للنظام العربي الرسمي، لتتوسع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة كقوة استعمارية ولاعب رئيسي في إدارة الصراعات الجيوسياسية في المنطقة العربية، وضمان نفوذها الشرق أوسطي في النظام الدولي الجديد، إضافة إلى تمكين القوى الإقليمية المتحفزة، إيران وتركيا وإسرائيل، للتمدد والتوسع واختراق المنطقة، عموديا وأفقيا.
ومن المؤسف أن معظم الدول العربية، التي اهتزت وضعُفت مواقفها، لم تجد حلولاً عقلانية للواقع العربي بمتغيراته الجديدة، سوى التنافس من أجل الحصول على الحظوة الأمريكية، وإبرام صفقات منفردة معها، بهدف الحفاظ على مصالحها.
إذن يمكن القول إن احتلال العراق، لم يكن سوى إحدى البوابات الرئيسية لدخول المنطقة في حالة الفراغ السياسي والأمني بكل أبعادها، ما شيّد الطريق أمام الدخول في مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، المرسوم لتغيير خريطة المنطقة إلى منطقة نزاعات وصراعات وفوضى ودمار، وانعدام مقومات التطور والتنمية والحياة الكريمة... وها نحن بعد مرور عقدين من الزمن أمام مشهد التراجع العربي على كل الأصعدة، وحروب تتصاعد، وأزمات سياسية واقتصادية ومالية وتعليمية، وارتفاعات مخيفة في معدلات الفقر والبطالة والأمية؛ في الوقت الذي لا تزال بلداننا العربية لا تؤمن بأهمية الاتفاق، أو التوافق، العربي-العربي من أجل حماية مصالحها مجتمعة أمام تغول الأحداث الدولية من حولها.
لربما يلحظ العرب اليوم إنه خلال العقدين الأخيرين تناقص كثيراً استخدام مصطلح «النظام العربي الرسمي»، ولربما صار هذا المصطلح إلى زوال، وكأن هذا النظام، الذي أسسه الإنجليز كأحد متطلبات مشروع سايكس بيكو، انتهت صلاحيته، مع بدء مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي من أهم أهدافه إنهاء الوجود العربي كأمة، أو ككتلة، لتحل محله عقيدة المصالح القطرية الهزيلة والضيقة.
وهناك الكثير من التفاصيل في هذا الشأن سنتجاوزها لضيق المساحة، ولاستيفاء التداول في محاور أخرى...
ارتدادات «الربيع العربي» والفوضى الجديدة
مع دخول المنطقة في العصر الأمريكي مع بداية القرن الجديد، ازداد العجز العربي في التنسيق والتعاون المشترك فيما بينها، وانعكس ذلك على دور جامعة الدول العربية وعجزها في وضع استراتيجية واتفاقية أمنية ودفاعية موحدة لعلاج مشكلة الأمن الإقليمي العربي؛ وفي الجانب الآخر زاد نفوذ القوى الإقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل) في المنطقة وزاد تأثيرها على القرار السياسي العربي، وتأثيرها في ازدياد الهوة بين الشعوب العربية وحكوماتها. ومع الوقت ظهرت الارتدادات وعمّت الفوضى في عدد من الدول العربية منذ سنة 2011 ضمن ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي دفعت أحداثه المنطقة إلى المزيد من الضعف والهزال والفراغ السياسي، وجعلت الأمن القومي العربي في أسوأ حالاته، وصولاً إلى حدّ عجز دول عربية كبرى، وتواطؤ دول أخرى ضد بعضها.
وبجانب الفوضى، والدمار وعدم الاستقرار الأمني والاقتصادي، خسرت عدد من الدول العربية أجزاءً من أراضيها، وظهر ما سمي بـ«المناطق غير المحكومة» لتصبح تحت سيطرة الحركات الإرهابية، ومن ثم ضمن النفوذ الأمريكي وإدارته. ومع انتشار الجماعات الإرهابية في مواجهات مسلحة مع الجيوش العربية، دخلت بعض الدول العربية ضمن مصطلح أو مفهوم «الدول الفاشلة»، ما أدى إلى انعدم الأمن والاستقرار، وتراجع الاقتصاد والتنمية والتطور في أغلبها، ونزوح مواطنين وهجرة آخرين في إطار البحث عن أوطان جديدة وحياة كريمة.
هذه هي الصورة القاتمة التي أضحت عليها بعض الدول العربية، في تباشير من مشهد الشرق الأوسط الجديد، والوضع الإقليمي العربي الممزق.
تغلغل الجوار الإقليمي في المصالح العربية
واليوم، بات تغلغل دول الجوار الإقليمي (إيران وتركيا وإسرائيل) في كل قضايانا العربية المصيرية، الأمنية والعسكرية وغيرها، أمراً واقعاً، حتى صار لها اليد الطولى في التحكم بمصير ومستقبل المنطقة، حيث تعتمد قوتها في عموم المنطقة أساساً على هزال السياسات العربية، من جهة، وعلى تداخل مصالحها وعلاقاتها مع بعضها، ومع مصالح القوة العظمى الأمريكية من جهة أخرى... هي لعبة براجماتية دقيقة تعمل بنظرية المصالح من جهة، كما تلتقي وتتقاطع مع بعضها في مواقفها المعادية للعرب، مع الإيمان بأن مصالحهم البينية ستنمو في المنطقة كلما ازداد الشقاق بين العرب وزاد انشغالهم بخلافاتهم وصراعاتهم البينية (فرّق تسد)...
إن مسلسل مظاهر تراجع الأمن الإقليمي العربي لم ينته بعد، ولربما الأسوأ لم يأت بعد، فما يحصل في السودان واليمن وليبيا ولبنان والعراق وغزة، والخلافات المستعرة بين الدول الشقيقة، يُثير أكثر من تساؤل حول معدل ارتفاع حالة العجز السياسي، والفراغ الاستراتيجي، التي يعاني منها إقليمنا العربي، وحول مدى إمكانية إصلاح هذه الحالة.
المحور الثاني: العرب والنظام الإقليمي العربي: آفاق الإصلاح
إذن بالرغم من الصورة القاتمة التي نلحظها ضمن الواقع الحالي للنظام الإقليمي العربي، نعتقد بأن التطورات الجيوسياسة الدولية يمكن أن تدعم آفاق الإصلاح وتسهم في استرداد النظام العربي الإقليمي ولو جزئيا... وأن هناك ثمة أمور أساسية يمكنها المساهمة في تفعيل هذا الأمر:
أولاً: الوضع الدولي الجديد الذي أفرزته الحرب الروسية-الأوكرانية، وما لحق بالغرب عموماً والسياسات الغربية خصوصاً من فشل على جميع محاورها... وانعكاس ذلك على المواقف العربية التي تميزت بشيء من الحكمة في رعاية مصالحها القومية والوطنية... وما يبعث على التفاؤل هنا إنه لأول مرة لم تنجح الضغوطات في تغيير الموقف العربي، بل غيّرت في طريقة التعاطي العربي مع مثل هذه الأزمات، وظهور الشخصية العربية الجديدة في العلاقات الدولية.
ثانياً: بوادر ظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يبشر برسم سياسات وعلاقات ونظم اقتصادية دولية جديدة ومختلفة عما رسمها الغرب منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية..
ثالثاً: وجديداً، الحرب الإسرائيلية- الغربية الوحشية على غزة، والتي تهدف إلى التوسع والإسراع في تنفيذ أهم محاور خريطة الشرق الأوسط الجديد كما أعلن نتنياهو... حرب يبدو أنها معدة مسبقا، وتم توقيتها لتبدأ قبل موت النظام الدولي الأمريكي، وقبل إعلان النظام الدولي الجديد المتعدد القطبية، والذي من شأنه كبح جماح الغطرسة الغربية.
فرغم بشاعة الإجرام الصهيوني والغربي، ورغم الثمن الباهظ الذي يدفعه شعبنا العربي في غزة أمام الآلة الصهيونية المجرمة، إلا أن هناك تبعات واقعية جديدة لهذه الحرب تتبلور شيئاً فشيئاً، لن تكون لصالح الغرب والنظام الصهيوني في المنطقة في كل الأحوال... ولا أقصد هنا فقط الإشارة إلى بعض المواقف العربية الرسمية التي بدأت بالتشكل خلال الأيام القليلة الماضية، وإنما أشير إلى تلك العوامل المعنوية المهمة التي تظهر في العنفوان المتجدد للقضية الفلسطينية، والذي يبشر بأن هذه القضية لن تموت بهذه الحرب ولا بأي آلة عسكرية أخرى... هذا إضافة إلى ما حققته هذه النكبة الفلسطينية الجديدة من وعي جديد حول الدور الصهيوني الوحشي في عقول وقلوب أجيالنا العربية الجديدة، التي لم تعش ولم تسمع مسبقا عن تاريخ وحكايات النكبة الأولى في فلسطين وإنما عاشت هذه النكبة بكل تفاصيلها على كل وسائل الإعلام والتكنولوجيا... إنها بوادر صعود قوة فكرية وسياسية عربية جديدة لا يمكن تجاهلها، بل نعيشها بترقب اليوم.
في الختام، يمكن القول إن المشوار ما زال طويلا لإصلاح النظام الإقليمي العربي، ما دامت أسباب هذا التراجع قائمة إلى اليوم (استمرار الحركات الإرهابية والعنف، التغلغل الإيراني-الفارسي من الشرق والتركي-العثماني من الغرب، الحرب في السودان، الحرب في اليمن، الوجود الأجنبي في سوريا، عجز جامعة الدول العربية، تفكك القرار العربي والانتشار الصهيوني في مفاصل المنطقة... وغيرها)، لكن الظرف الدولي الحالي وفكرة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، يمكن أن يمثّل فرصة جيدة لإصلاح ما تم تعطيله منذ عقود.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك