منذ زمن طويل وقبل العدوان الأخير على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، كان الإعلام الغربي قد ثبت صورة ذهنية نمطية في الوعي العام الغربي عن إسرائيل، بأنها «واحة للديمقراطية، ودولة صغيرة تنتمي لحضارتهم، ولا تنتمي إلى الشرق الأوسط، إلا بحكم موقعها الجغرافي، وأنها تقع وسط محيط معادٍ لها، متأهب في كل وقت للانقضاض عليها، وهذا المحيط لا ينتمي للقيم الغربية، وأن ما تقوم به إسرائيل من عسكرة وحشد للأسلحة -حتى انفرادها بحيازة السلاح النووي- للدفاع عن نفسها».
ومع ترسيخ مثل هذه الصورة في الغرب، ولجت إسرائيل إلى دوائر صنع القرار في هذه الدول، خاصة «الولايات المتحدة»، حتى صار الحفاظ على أمنها، أحد أهم مقومات السياسة الخارجية لواشنطن وغيرها من العواصم الغربية، فلم يكن غريبًا منذ اليوم الأول للعدوان، أن نرى تلك التعهدات الأمريكية والأوروبية بدعمها وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من مال وسلاح. ولتأكيد ذلك، قام الرئيس «جو بايدن»، وكبار القادة والمسؤولون بزيارتها، وإعلان تضامنهم معها، وهو الأمر الذي فعله العديد من رؤساء دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، ضاربين بعرض الحائط العلاقات الاستراتيجية التي تربط دولهم بمعظم الدول العربية.
ونتيجة طبيعية لهذا، لم يتطرق الإعلام الغربي إلى مقدمات ما حدث في السابع من أكتوبر، وإلى تأزم القضية الفلسطينية، وتراجع الاهتمام بها، وانسداد الأفق السياسي لحلها، وتمادي الاحتلال الإسرائيلي في مصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويدها، وبناء المستوطنات عليها، ولا إلى الممارسات الإجرامية من قِبل المستوطنين -والتي وصلت إلى حد القتل والتعدي على المقدسات الإسلامية والمسيحية، تحت سمع وبصر وحراسة قوات الاحتلال الإسرائيلية- كما لم يقف عند الدوافع التي كانت وراء أكثر من انتفاضة، ولا عند استخدامها القوة المفرطة في حروبها المتوالية على غزة، ولا عند تأزم الأوضاع الاقتصادية، سواء في غزة أو الضفة الغربية، بسبب الحصار الذى تفرضه، وسرقتها للموارد الفلسطينية.
وعلى النقيض من ذلك، تبنت وسائل الإعلام الغربية كحكوماتها، «المعايير المزدوجة»، في تناولها لعملية «طوفان الأقصى»، فأعطت لإسرائيل كل الحق في استخدام العنف بدرجاته المتصاعدة، وحرمت الفلسطينيين من حقهم الشرعي في درء هذا العدوان، فلم تنتقد الحصار الخانق على قطاع غزة لأكثر من 16 عاما، ولا سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم في تفريغ إسرائيل من كل سكانها العرب، وسعيها لأن تكون دولة خالصة لليهود، ولا إلى وصفهم بالحيوانات البشرية من قبل وزير دفاع دولة الاحتلال. وإلى هذا بات الضمير الغربي مستريحًا ومستعدًا لاستقبال الرواية الإسرائيلية بكل تضليلها وزيفها وكذبها.
وفي السابع من أكتوبر، سردت إسرائيل روايتها، وقامت بشيطنة الفلسطينيين، ووصمتهم بأنهم يمارسون ما كانت تمارسه «داعش»، وأن ما قاموا به هو إرهاب تجلى في انتهاكهم حقوق المسنين، والنساء، والأطفال في المستوطنات التي جرى مهاجمتها. ورغم تكذيب شهود عيان لهذه المزاعم، فقد صدقتها الولايات المتحدة، وبعض دوائر صنع القرار في الغرب. وجرى هذا التصديق دون تحقق، ومن ثم جرى هذا الاصطفاف -الذي رأيناه- وراء دولة الاحتلال، وجرى إفشال كل مسعى لوقف إطلاق النار، سواء من الأمم المتحدة أو خارجها حتى كتابة هذه السطور في اليوم العشرين على بدء غزو قطاع غزة.
وفوق ذلك كله، أطلقت الدول الغربية، يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، كي تفعل ما تشاء بذريعة الدفاع عن نفسها، بما في ذلك توغلها في سفك الدماء ما يقرب من «6100 شهيد، وأكثر من 18000 جريح، فضلا عن هدم المنازل (181000 منزل)، والمنشآت والبنى التحتية، وحرمان المواطنين من كل حقوقهم الإنسانية، وتشديد الحصار الخانق عليهم، بما في ذلك حرمانهم من الطعام، والماء، والدواء، والوقود، والكهرباء، والاتصالات. وحين هبت الدول العربية لتوفير المساعدات الإنسانية لهم، رفضت إسرائيل هدنة إنسانية حتى تدخل هذه المساعدات.
وبشكل عام، وضع «الإعلام الغربي»، عملية «طوفان الأقصى»، وكأنها الفعل، وما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي من عمليات إبادة جماعية للفلسطينيين، هو «رد فعل»، و«دفاع مشروع عن النفس»، علمًا بأنه في كل حروبها ضد الفلسطينيين والعرب، دائمًا كان تصرفها هو الفعل، والتحرك العربي بمثابة ردود أفعال.
وفي حقيقة الأمر، استغل الإعلام الغربي المنحاز، عدم حضور «القضية الفلسطينية»، في أوروبا وأمريكا، حيث إن الرأي العام هناك لا يعلم عن معاناة الفلسطينيين شيئا، بسبب ما تفعله إسرائيل من تضليل وتزييف للحقائق، وقام بالترويج للرواية الصهيونية. في حين كان هذا الإعلام نفسه، حريصا على إثارة الذعر بشأن «الإسلاموفوبيا»، ويتحاشى أن يُتهم بمعاداة السامية، إن هو أقدم على ذكر خلاف الرواية الإسرائيلية، ومن ثمّ، ظلت إسرائيل هي مصدره الأول والوحيد للمعلومات؛ فافتقد المهنية، والاستقلالية، والحياد الذي يظن البعض أنه يتحلى به.
ومنذ بداية العدوان على غزة، حرصت وسائل الإعلام الأمريكية، وفي مقدمتها صحيفة «نيويورك تايمز»، على تأطير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، باعتباره حربا من جانب واحد (حماس)، وانشغلت بتجريم هذه الحركة، وتجاهلت الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، وتناولت الهجوم الذي قام به الفلسطينيون، وكأنه نوبة غير مبررة من عنف وكراهية، وليس مجابهة الاحتلال منذ 55 عامًا.
في السياق ذاته، جرمت قناة (سي إن إن)، المقاومة الفلسطينية، وأبرزت الاحتلال الإسرائيلي على أنه في وضع الضحية، أو المُعتدى عليه، وأن ما تقوم به المقاومة الفلسطينية إرهاب ضد المدنيين الإسرائيليين، فيما ركزت الصحف الأمريكية، على ادعاء قتل إسرائيليين، بينما تجاهلت التقارير استشهاد الآلاف من الأطفال والنساء والمسنين الفلسطينيين (قرابة 298 في الضفة العربية منذ بداية هذا العام فقط).
وكان التحيز واضحًا أيضا في وجود مراسلين كثر لعدد من وسائل الإعلام الأمريكية في إسرائيل فقط، بينما لم تنشر مثلهم في قطاع غزة، والتي منحت وقتًا للأصوات الإسرائيلية لترويج رواياتهم، وعن الضحايا الإسرائيليين، متجاهلة الضحايا الفلسطينيين، وأجرت شبكة (سي إن إن)، لقاء مع «جورج بيرنباوم»، المساعد السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو»، الذي شبه حماس بالنازين، وأخرى مع «نيداف ريفرير»، القائد السابق لوحدة التكنولوجيا، الذي دعا إلى تسوية غزة بالأرض، فيما زعم السفير الإسرائيلي السابق «داني ألون» في مقابلة مع قناة (إم إن أس)، أن إسرائيل لا تستهدف المدنيين.
أما «الإعلام البريطاني»، فقد وصف هجوم حماس، بأنه «لا يقل عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر نتج عنه خسائر كبيرة في أرواح الإسرائيليين لأول مرة منذ المحرقة. وبرر هجوم الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، بأنه لتأكيد أن «حماس»، لن تمارس انتهاكات مرة أخرى داخل إسرائيل. من جانبها، وصمت مجلة «الإيكونومست»، عملية «طوفان الأقصى»، بـ«الهجوم المتعطش للدماء». بينما وصفته «الجارديان»، بـ«الهياج القاتل»، فيما لم تستخدم وسائل الإعلام البريطانية تلك الأوصاف في حق الجرائم الإسرائيلية. وفي حين تناولت أخبار القتلى والأسرى الإسرائيليين، فإنها لم تتناول عدد القتلى والأسرى من الجانب الفلسطيني.
وبهذا المعنى، نقلت صحف، مثل (صن، اندبندنت، التايمز، تيليجراف، ميل، وإكسبريس)، الزعم الإسرائيلي، بأن حماس قتلت أربعين طفلًا، ووضعته في عناوين رئيسية، دون أي دليل، كما أن بعض وسائل الإعلام البريطانية، قد صرحت بأن إسرائيل ليست هي المسؤولة عن تشريد وتجويع المدنيين في غزة نتيجة الحصار، وأن حماس هي المسؤولة عن ذلك، وأنه ليس عليها بموجب القانون الدولي توفير الإمدادات لغزة؛ لأنها ليست محتلة لها. واستخدمت صحيفة (التايمز)، أعمدتها لتصوير الفلسطينيين ومؤيديهم، على أنهم «تجار كراهية»، يأتي هذا فيما انشغلت (بي بي سي)، بتجريم حركة حماس.
ولم يبتعد «الإعلام الفرنسي»، كثيرًا عن التناول الأمريكي والبريطاني، حيث طالبت مجلة «لوبوان»، إسرائيل، بأن تكون «عدوانية جدًا». وأبرزت المظاهرات الداعمة لقوات الاحتلال، وركزت فقط على أعداد القتلى والجرحى من الإسرائيليين دون الشهداء الفلسطينيين.
ولتأكيد وجهة النظر هذه، استخدمت وسائل الإعلام الغربية، «أدوات ووسائل»، برز من خلالها تحيزها لإسرائيل، وروايتها للأحداث على حساب الرواية الفلسطينية أو الواقع؛ شملت تلك الأدوات، توظيف مصطلحات «الحرب على الإرهاب»، بما تشمله من استهداف للمدنيين، كما تتضمن تشبيه «حماس»، بتنظيم القاعدة وداعش، وتبنى وجهة النظر الإسرائيلية بالكامل، فيما اتجه الإعلام الغربي أيضَا إلى تضخيم الخسائر الإسرائيلية، والتهوين من خسائر الفلسطينيين.
وكما هو معروف فإن الأخبار الكاذبة، التي روج لها الإعلام الغربي -واعتذر البعض عنها فيما بعد- والمتعلقة بـ«ذبح أربعين طفلًا»، كان مصدرها زعيم المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، «ديفيد بن صهيون»، في تصريحه للقناة الإسرائيلية «I 24»، والتي بالتدقيق، تبين أنها «صور مزيفة باستخدام الذكاء الاصطناعي». ومن بين الأخبار الكاذبة أيضَا «اغتصاب النساء»، وهو ما كذبه العديد من الأسرى الإسرائيليين، الذين تم إطلاق سراحهم، حيث أكدوا يوم 24/10/2023 أن معاملتهم تمت بأسلوب إنساني وحضاري، ومن الأكاذيب كذلك قتل 250 شخصا في حفل موسيقي، وحرق فتاة في هذا الحفل، والذي تم تكذيبه والاعتذار عنه فيما بعد.
ومع ذلك، فإن ما قام به «الإعلام الغربي»، من ترويج الرواية الإسرائيلية، بما شملته من أكاذيب وتضليل، لم ينطلِ على عديد من المسؤولين، حتى في الأوساط القريبة من صناعة القرار، كالخارجية الأمريكية، الذى عبر العديد من موظفيها عن أسفهم تجاه هذا الانحياز الغربي بل واستقالة بعضهم، كما خرجت التظاهرات في عديد من المدن الأمريكية والأوروبية المساندة للقضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف الحرب، بلغ عدد بعضها أكثر من مائة ألف متظاهر في لندن.
على العموم، لم يعد حديث ازدواجية معايير الغرب كافيا، وليس في مجرد الإشارة إلى انحياز إعلامهم ما ينقل عمق المأساة الإنسانية في فلسطين، فنحن أمام ظلم غربي يسكت صوت الضحية، ويطلق صوت الجاني المعتدي والغازي والمحتل والمستوطن، موظفا كل أبواقه السياسية والإعلامية، أمام فشل كامل لحديث القيم الديمقراطية التي صار واضحا أنها لا ترى في الفلسطينيين والعرب عامة سوى بشر من الدرجة الثانية، لا حقوق لهم، ولا حريات.
ومع ذلك، يتبقى أنه في ظل هذا العداء الغربي لكل ما هو عربي، وفي ظل ازدواجية المعايير الغربية في انحيازها لإسرائيل، فإنه لابد من وقفة عربية ضد هذا الانحياز ربما هي بعيدة المنال في الوقت الحاضر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك