الليل لا يخفي الويل، فالحرب المجنونة علينا تستعر ليل نهار، ويحمي وطيسها أكثر، ويزداد جنونها يومًا بعد يوم، ما يعني أننا أمام ليلة من الانفجارات المدوية والمخيفة، التي لا تتوقف، أسمع من سريري صوت قذائف البوارج البحرية، وصواريخ الطائرات الجوية، وقنابل المدفعيات المتمركزة على الحدود، وأرى وهج النار قبل أن أسمع صوت الانفجار، ويملأ حلقي وأنفي بالغبار والرماد، وأرى الشظايا المتناثرة.
يتخلل كل ذلك آهات الباكيات من النساء بعد الإصابة، وهتاف الرجال: (يا جماعة إسعاف)، وأنين الأطفال الفزِعين (يهود يهود)، وصوت أمي الذي يعلو بالشهادتين عند كل قصف، وأبواق سيارات الإسعاف التي تقطع شارعنا كل يوم. أنا خائفة مثلكم، لكن الصوت الوحيد المطمئن في هذا النفق الأسوَد الذي لا نور فيه:
هو صوت الهاربين من الموت، الناجين من تحت الأنقاض، الذين يهرولون في الشارع الذي أطلّ عليه؛ لذلك لا أريد النوم في الصالون!
تخيل أن يكون أنيسك في هذا الصمت المطبق:
طرق نعال الماشين الهاربين في درب النجاة وسط الظلام الحالك. والحقيقة أني لا أخاف الموت، أنا جارة المقبرة، شهدتُ كثيرًا من تشييع الشهداء، ورأيت جثامينهم، وسمعت هتافات الشباب المودّعين، وأحفظ كل الشعارات التي هتفوها للقدس وفلسطين، وللشهداء المبشرين بالجنة، والدعاء بالصبر لأم الشهيد.
لكني لا أحتمل صفير الصواريخ قبل الانفجار، لدرجة أني صرتُ أشد شعري، وأتعوّذ من فواجع الأقدار، ومن المبنى المنهار، وأصعد على الأدراج لأفتش عن إخوتي،
لا أريد أن تبقى جثثنا تحت الأنقاض؛ لذلك يعرف كل منا مكان نوم أخيه؛ كي يفتش عنه! في الليل متسعٌ لي؛ كي أتفقد أحاسيسي التي أنساها وسط زحمة النهار، ومشاغله:
أنا ابنة الحروب التي عركتني، وأذاقتني ويلاتها، وأعرف كيف يُصدم الأطفال، وكيف تضيع أحلام المراهقين، وكيف تزول أماني الشباب.
لكني مللتُ من المشاهد المتكررة التي نعيشها بالصوت والصورة على أرض الواقع، وأشمئز من الردود الباردة للقريب والبعيد. أشعر بالتوجّس من هذا الموت البطيء، ومن الانتظار المرّ، متى يحين الرحيل؟ أو متى تكون النجاة؟ أكذب لو قلت إن إيماني يكفي للشعور بالطمأنينة، أنا قلقةٌ جدًّا من التهديد، والوعيد والقتل والترويع، والتلويح بالحرب البرية التي لا تبقي ولا تذر، لا نجاة في الشمال، ولا أمان في الجنوب، ومع ذلك يريد الاحتلال لنا أن ننزح إلى الجنوب، لكنّ هذا لا يعني أنه لن يقتلنا في الجنوب!
أغبط الشهداء على نجاتهم، وخلاصهم، محظوظون هم الذين يغادرون هذا العذاب سريعًا، أما نحن الأشقياء فنبقى أحياء عالقين في ذنوبنا وخطايانا.
في غزة الفتية، معظم الشهداء من الأطفال، وحين أرى صورهم، أحزن على موتهم الحزين، وأبكي جلودهم الغضّة التي تذيبها الصواريخ الحارقة المحرمة دوليًّا، ماذا جنوا لكي لا يحميهم العالم المتحضّر؟ وماذا فعلنا كي لا تتوقف الحرب؟ ومقتلي سيكون في أسئلتي التي تدور!
أفكر كيف ستصبح حياتي لو.. وتنقطع الأحلام بمجرد سماع الصاروخ الهابط على أصحاب القدر النافد..
لا يمنع دعاء الآباء والأمهات بالسلامة نزولَ المصائب، فالشهداء يرتقون تباعًا، وأرواح الشباب تتصاعد إلى السماء جماعاتٍ، فنحن في غزة الولادة لا نعرف الآحاد.
مشكلة الإنسان الأزلية الأبدية في ندمه الدائم على الأشياء الضائعة، كم مرةً بكى آدم فردوسه المفقود؟
ونحن الآن نشعر بالندم، لم نعرف جمال غزة إلا بعد أن نظرنا إليها من فوق الركام، كم مرة أكلنا من خير غزة، ومضينا لنلعن حياتنا فيها؟
سامحنا يا رب، نحن ممتنون لك على كل الأيام الجميلة التي عشناها، وعلى كل اللحظات التي باركتها لنا، سامحنا على الجحود والإنكار.. أعدنا يا رب، يا مبدئ، يا معيد إلى غزة التي عهدناها! لكن هذا الأمر يحتاج إلى معجزة في زمن انقطاع النبوة، أو إلى كرامة، لكن لا وليّ بيننا يوقف دعاؤه الحرب علينا. في هذا العدوان البغيض، لا أحسب الأيام، ولا أعرف التواريخ، ولا أميّز بين الخميس الونيس، والسبت التعيس، والثلاثاء المنحوس، كل الأيام منكوبة! بعد الخطوة التي كسرت حاجز الأرقام، في السابع من أكتوبر. أتذكر قبل شهرين أو أقل أو أكثر، كنا نبكي على شبابنا العابرين البحر إلى اليونان بطريقة غير شرعية، يا ليتها كانت مصيبتنا الأكبر، وليتنا سمحنا لهم بالهجرة، وما رأيناهم مقطعين أشلاء، وملفوفين بالأكياس، ومحمولين على الأكتاف دون نظرة وداع.
يقطع تفكيري رسالة عبر الهاتف من صديقة أخرى تسألني منذ أيام عن قريبها المفقود، وتبعث لي الرجاءات، والدعاء بستر عرضي أن أسأل لها عنه، وعدتها أن أسأل إخوتي، لكنني أخفيتُ عنها الإجابة الحقيقية، وهي أنه قد استشهد في قصف في المخيم، قلت لها اليوم إنّه على الأغلب قد دفِن، فالمشافي تدفن مجهولي الهوية بعد 48 ساعة من استشهادهم. أحاول التخفيف عنها بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الشهيد لا يشعر بألم قبض الروح، وأن الهمّ موزّعٌ على الخلائق بالعدل في غزة، فعدد الشهداء مجهولي الهوية فاق الألف شهيد، ويجري دفنهم بموافقة وزارة العدل والداخلية وبفتوى من وزارة الأوقاف، وننتظر جميعًا التهدئة للتفتيش عن بقايا البيوت، وعن الجثث والأشياء.
أحاول أن أمازحها –متعاليةً على الموقف الجلل – بأسلوبي المعهود لتجاوز الألم، وأقول: هل تذكرين كم كنا نتأفف من انعدام الخصوصية في مجتمعنا، ولا ندري أنها كانت نعمة، إذ كان الكل يعرف الكل، أما اليوم فمجهولون كثر دفنوا دون التعرف عليهم أو وداعهم!
أشتم رائحة البارود والنار والفسفور، من غرفتي الغربية نفسها، أندب مع العجائز في المخيم، كلنا خسرنا في هذه الحرب، وكلنا دفعنا ثمنًا باهظًا، كلنا نقف على الدور في انتظار الموت القادم، والموت أهون من الفسفور الذي يذبحنا، ويحرق وجوهنا، ويأكل أنوفنا...
أضع الغطاء على وجهي، أغطي قدميّ في محاولة الشعور بالأمان، أتضرع إلى الرب؛ يا ربّ أنقذ وجهي ورجليّ من الشظايا، أرجوك إن كتبت لي الحياة، فلا يتشوّه جسدي، ولا يحترق جسمي، الموت أهون عليّ من ذلك.
لا أريد النوم، أرى في منامي مشهد الخيمة، والقدور الفارغة، وكرت المؤن، وطابور الإغاثة، كلّ ما أريده أن يتم الله علينا نعمه في الشمال، فقد اعتدنا الرفاهية، ولم نخشوشِنْ، ولا أظن أنني قد أحتمل ذلّ الجنوب، أو جنوب الجنوب في سيناء! كيف يمكننا الخلاص من الكابوس الذي وقعنا فيه حال يقظتنا ومنامنا؟
المعجزة وحدها طريق النجاة.
والحسرة في القلب، والدمع في العين، والجرح في الكف، وهذه الحكاية لا تنتهي إذا كُتبت لنا الحياة...
{ معلمة فلسطينية من غزة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك