دواء استخدمه الملايين من الناس في كل أنحاء العالم لعقودٍ طويلة من الزمن وصلت إلى قرابة خمسين عاما، وكان هؤلاء الملايين الذين تناولوا هذا الدواء يعيشون تحت وهم وأمل أن هذا الدواء سيشفيهم من سقمهم وعلتهم، أو في الأقل يخفف عنهم الآلام التي يعانون منها، ويخلصهم من الأعراض التي تصيبهم وتبقى معهم فترة طويلة من الزمن.
وقد تبين الآن، وبعد أكثر من خمسة عقود طويلة بأن هذا الدواء في الواقع لا يُغني ولا يسمن من جوع، فهو لا يعالج أحداً، ولا يشفي أحداً من مرضه الذي يعاني منه سنوات طويلة، فهو لا ينفع المريض، ولكن في الوقت نفسه قد يضره بسبب الآثار الجانبية التي يتعرض لها.
وهذا الدواء الذي أَنْفق على شرائه الملايين من الناس، فأهدروا أموالهم وذهبت هباءً منثوراً، كلفهم جميعاً قرابة 1.8 بليون دولار في عام 2022 فقط، وهي مبيعات شركة الأدوية والعقاقير، فهو يحتوي على مركب كيميائي، هو «فينيليفرين» (phenylephrine) والذي يعد المادة الفاعلة والنشطة في الدواء، والتي من المفروض أن تكون سبباً في العلاج وتخفيف حدة أعراض المرض. هذا المركب تمت إضافته إلى نحو 261 نوعاً من الأدوية، ومجموعة من هذه الأدوية كانت مخصصة حسب ادعاءات الشركات المنتجة والمصنعة لها، لعلاج وإزالة احتقان وانسداد الأنف، والحساسية، والمشكلات التي تنجم من التهاب الجيوب الأنفية، وكانت تُباع من دون استشارة، أو وصفة طبية في الصيدليات، والأسواق عامة، والبرادات، ومحلات بيع الأغذية، والمطارات، تحت عدة مسميات تجارية منها: (Flonase)، و (DayQuil)، و (Sudafed PE)، و (NyQuil)، و ( Vicks Sinex).
وهذه المجموعة من الأدوية تخضع الآن تحت المناقشة والنقد، وكانت تؤخذ من قبل المريض عن طريق الفم لإزالة الاحتقان في الأنف الناجم عن البرد، أو الحساسية، أو الجيوب الأنفية وارتفاع الحرارة، وتمت إجازتها رسمياً بتوصية من قبل فريق الاستشاريين والخبراء الذين يعملون تحت مظلة «إدارة الغذاء والدواء» في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل الإدارة نفسها في عام 1976، وكان تصنيفها بأنها «فاعلة ونشطة وآمنة» للاستخدام من قبل الإنسان.
والآن وبعد مضي هذه السنوات الطويلة يأتي فريق آخر يُطلق عليه «اللجنة الاستشارية للأدوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية» (Non-prescription Drug Advisory Committee) ليُقدم رأياً مخالفاً كلياً للجنة السابقة، حيث عقدت هذه اللجنة المكونة من 16 خبيراً اجتماعها في يومي 11 و 12 سبتمبر 2023، وتوصلت إلى استنتاج جماعي من كل الأعضاء دون استثناء بأن المادة الكيميائية «فينيليفرين» التي أضيفت إلى الأدوية لإزالة الاحتقان في الأنف هي فعلياً لا تنفع المريض البتة، ولا تعالج حالات احتقان وانسداد الأنف، بل على العكس فإن تناول هذا الدواء يضر بالمريض بسبب الآثار الجانبية التي تتلخص في سرعة دقات القلب وعدم انتظامها، والشعور بالدوار والغثيان، وزيادة ضغط الدم، والصداع، وفقدان الشهية، والشعور بالتعب. ونتيجة لهذه الاستنتاجات حول الدواء فقد رفعت اللجنة الاستشارية توصيتها إلى «إدارة الغذاء والدواء» لرفع هذه المجموعة من الأدوية من كل المرافق التي تباع فيها حفاظاً على صحة المواطنين، ومنعاً لضياع أموالهم على أدوية لا تنفع وتضر بالإنسان.
وقد جاءت هذه التوصية الجماعية غير الشعبية وغير المقبولة بالنسبة إلى مصانع الأدوية والعقاقير والشركات المسوقة لها، بعد مخاضٍ عسير وطويل وشاق استمر سنوات طويلة، وبُذلت فيها الكثير من الجهود والدراسات العلمية. فعلى سبيل المثال، في عام 2007 قام باحثون بإجراء دراسات على هذه المادة الكيميائية الموجودة في أدوية إزالة الاحتقان في الأنف، وأثبتت بأنها غير فاعلة وغير مجدية علاجياً، فرفعت عريضة تطلب من إدارة الغذاء والدواء إزالة هذه الأدوية من الأسواق، ثم في عام 2015 أجريت أبحاث أخرى مماثلة وأكدت النتيجة نفسها، كما قامت بتسليم إدارة الغذاء والدواء عريضة لسرعة اتخاذ قرار جريء ومعقد يزيل هذه الأدوية من كل مراكز البيع.
والآن ستبدأ المعركة الكبرى، أو أم المعارك، والتي ستكون شديدة وقوية بين إدارة الغذاء والدواء من جهة، وشركات الأدوية ومن يرتزق عليها من جهة أخرى، وستكون مقاومة هذه الشركات شرسة وعنيفة ولن ترفع العلم الأبيض مستسلمة لأي قرار يأمرها بإزالة هذه الأدوية من الأسواق والتوقف عن بيعها، ما يعني خسارة المليارات من الدولارات التي يكسبونها من بيع هذه الأدوية. فهذه الشركات ستستخدم كل جنودها المجهولين وغير المجهولين للاستماتة في الدفاع عن هذه الأدوية وفاعليتها ودورها في علاج أعراض احتقان وانسداد الأنف، والأمراض الأخرى الشائعة، وستُحارب بضراوة وبكل ما أوتيت من قوة، ونفوذ، واتصالات ومجموعات الضغط لإيقاف أي قرار لا يصب في مصلحتها الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، تحركت بسرعة «جمعية منتجات الرعاية الصحية الاستهلاكية» (The Consumer Healthcare Products Association)، وهي مجموعة تُمثل مصنعي الأدوية، فقامت بالاعتراض رسميا على توصية لجنة الاستشاريين، وأكدت أن التجارب السابقة التي أجريت على هذه المادة الكيميائية أثبتت فاعلية المادة، وأكدت أنها آمنة لاستخدام الإنسان.
وفي الحقيقة فإن هذا المشهد الأمريكي الغريب الذي أراه أمامي يجعلني أخرج بعدة استنتاجات مفيدة يجب أن نتعلم منها ونتعظ بها، كما يلي:
أولاً: القرارات التي تتخذها إدارة الغذاء والدواء بالنسبة إلى السماح بتسويق الدواء تمر بعدة مراحل ومستويات، فهناك مستوى فرق ولجان الاستشاريين والخبراء والذي تكون توصياتهم عادة مبنية على الدراسات والأسس العلمية، وهناك القرار النهائي الصادر من الإدارة. وهذا القرار يكون إدارياً وتوافقياً يراعي مصالح كل الجهات المعنية، فيأخذ في الاعتبار الجوانب السياسية والاقتصادية، حيث يتأثر قرارها بجماعات الضغط ورجال النفوذ ومراكز القوة. ولذلك قد يتناقض القرار بالسماح لأي دواء من وقت إلى آخر، كما حدث بالنسبة إلى دواء إزالة الاحتقان في الأنف. ومثل هذا القرار لا ينعكس على شعب الولايات المتحدة فحسب وإنما على معظم شعوب دول العالم، لأنها تعتمد كثيراً على قرارات الوكالات الأمريكية المختلفة، سواء في مجال الأدوية والعقاقير أو في مجال المواصفات والمعايير البيئية وغيرها.
ثانياً: على الجهات المعنية في دولنا تبني سياسة «المراجعة والتقييم المستمرين» في كل القطاعات الصحية والبيئية وغيرهما من خلال متابعة الدراسات والتقارير المنشورة كلٌ في مجاله، ومواكبة كل التطورات الحديثة في جميع القطاعات، فلا نعتمد على أمريكا، أو غيرها من الدول والمنظمات الأممية لكي تُصَدِّر لنا القرار المسيس في كثير من الحالات، فالتغيرات العلمية سريعة، ويجب أن نكون على علمٍ بها حتى نتخذ القرار السيادي بشأنها، والمناسب لظروفنا وخصوصيتنا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك