كان لإعلان نهاية المواجهة العربية الإسرائيلية الذي أصبح واضحا في الأعوام الماضية نتيجتان الأولى: بروز الحرب الإسرائيلية الفلسطينية بصورة مباشرة ومستقلّة إلى الواجهة، بصرف النظر عن أيديولوجية الفصائل التي تخوضها وخياراتها السياسية. والثانية، التي لا تنفصل عنها، انهيار السردية التي دأبت إسرائيل على ترديدها لكسب تعاطف المجتمع الدولي أن المسألة الفلسطينية مصطنعة من الدول العربية المعادية للسامية التي تختلق النزاع معها، للتغطية على إخفاقاتها الداخلية. وقد أتاح هذا كله لقطاعاتٍ واسعةٍ من الرأي العام العالمي اكتشاف الحقيقة التي عملت إسرائيل على إخفائها، وهي، ببساطة، واقع الاحتلال ووجود الشعب الفلسطيني ومقاومته المستمرّة منذ أكثر من سبعة عقود، وسقوط ترّهة تصوير الفلسطينيين أدوات في يد الدول المعادية التي ترفض الاعتراف بالمحرقة اليهودية التي جاء قيام إسرائيل ردّا سياسيا وأخلاقيا «نبيلا» عليها كما صور الغرب ذلك.
ومن يستعيد ما حصل في العقود الطويلة الماضية على هذه الأرض الفلسطينية المقدّسة من ثلاثة أديان يرى، بوضوح، أنه لم يكن لإسرائيل، في حروبها العديدة مع الوطنية الفلسطينية والمحيط العربي، سوى هدف واحد، تأكيد صدق الشعار الذي اعتمدته الحركة الصهيونية منذ تحرير كتاب «دولة اليهود» «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». ومن هنا أصبح القضاء السياسي، إن لم يكن المادي، على الشعب الموجود فيها وتغييبه، بل إنكار وجوده أصلا في فلسطين وخارجها محور السياسة الإسرائيلية بأكملها، فهي ترى في الاعتراف بوجوده، ولو على جزء من أرض فلسطين، نفيا لشرعية وجودها، أو بالأحرى ادّعائها ملكية فلسطين الحصرية وحقها التاريخي في وراثتها ومصادرتها من دون شريك، أي في تحويلها إلى دولة يهودية صافية، مستلهمة نموذج الدولة الألمانية العنصرية التي أرادت النازية تخليصها من «الشوائب» العرقية والأقليات غير الآرية، لتكون تعبيرا عن هويتها وتفوّقها الطبيعي وعبقريتها، والتي كان أبرز ضحاياه الطائفة اليهودية ذاتها. لكن الآية كانت معكوسة هنا، فليست الأكثرية القومية هي التي تريد تطهير نفسها من الأقلية «الناشزة»، وإنما العكس.
يشبه وضع المسألة الفلسطينية، بالأحرى، ما حصل في أمريكا الشمالية، عندما قرّرت الجماعات الأوروبية القادمة من أوروبا المأزومة مهاجمتها وتفريغ القارّة من سكّانها الأصليين لاستعمارها وتقاسم الأراضي والمصالح فيها بين الغُزاة البيض. من هنا، جاءت استراتيجية التهجير الجماعي (والمذابح إحدى أدواتها) ومحو اسم فلسطين وتاريخها والدولة التي كانت قائمة فيها باسم دولة فلسطين، ومصادرة كل ما كانت تملكه من إرثٍ مادي ولا مادي لحسابها، ثم نزع هوية الفلسطينيين كشعب، وإطلاق اسم عرب إسرائيل عليهم لحرمانهم من حقوقهم السياسية وشرعنة انتزاع أراضيهم وممتلكاتهم لصالح إقامة المستوطنات اليهودية. ولقطع الطريق على أي أمل لهؤلاء «العرب» بالحصول على حقوق المواطنة الإسرائيلية، وتحويلهم إلى لاجئين داخل بلادهم صوت الكنيست الإسرائيلي على قانون يهودية الدولة في 19 يوليو 2018، فصارت إسرائيل دولة لليهود، مهما كان منشؤهم وأصلهم ووطنهم الأصلي، وصار الفلسطينيون، أصحابها الأصليون، لاجئين، لا هوية سياسية لهم، سواء لا يزالون يقيمون (مؤقتا) في فلسطين أو يقيمون خارجها في مخيمات اللجوء. وبالتواطؤ مع الكتلة الغربية التي رعت، منذ البداية، ولا تزال، قيام إسرائيل لم يعد يظهر من قضية فلسطين سوى جانبها الإنساني، أي مشكلة لاجئين تقع مسؤولية حلها، كما هو الحال في جميع القضايا الإنسانية، على دول اللجوء العربية والمجتمع الدولي.
من المستحيل من هذا المنظور تصوّر أي مخرج للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني غير الحرب الدائمة، فطرد الفلسطينيين بأي وسيلة، وإخراجهم من فلسطين، سواء بالتهجير أو بحصارهم في معازل وجيتوات داخلها وإخفاء وجودهم بأي شكل، هو شرط وجود فلسطين دولة يهودية صافية أو خالصة ليهودها، والصراع ضد الطابع الصهيوني (العنصري) لإسرائيل (أي ملكيتها الحصرية لليهود) هو شرط استعادة الفلسطينيين اللاجئين في الداخل والخارج لصفة الشعب (بدلا من اللاجئين والنازحين) وحقوق المواطنة السياسية والقانونية معا.
من هنا، ما كان من الممكن لتاريخ إسرائيل منذ إعلانها عام 1948 إلا أن يكون تاريخ الحروب الإسرائيلية المنظّمة ضد الفلسطينيين من جهة، وتاريخ المقاومات الفلسطينية بكل أشكالها من جهة أخرى. الأولى تهدف إلى «إفراغ» الدولة من فلسطينييها بكل الوسائل، بما في ذلك تحييدهم، وهذا ما شكّل مركز الجهد ومحور النقاش والصراع السياسي والأيديولوجي الدائم بين يهود إسرائيل، أحزابا وحكومات، والثانية، المقاومة، تهدف إلى البحث بكل الوسائل عن «الدخول» إلى فلسطين/ إسرائيل، والعودة إليها واختراق أسوارها وتحصيناتها المادية والأيديولوجية.
هذا ما يفسّر عداء الحكومات الإسرائيلية المستمر والثابت للفظ فلسطين أو فلسطيني، ورفضها المنهجي أي مشاريع أو مبادرات فلسطينية أو عربية أو أممية تدعو إلى أو تسعى إلى التوصل إلى تسويةٍ أو حلٍّ سياسي، لا في إطار حلّ الدولتين المنفصلتين، ولا في إطار دولة ديمقراطية واحدة يتساوى فيها اليهود والفلسطينيون، كما هو حال جميع الدول المتمدّنة، وإصرارها عكس ذلك على استغلال أي فرصة أو ذريعة لبناء المستعمرات على الأراضي الفلسطينية المصادرة وترحيل السكان الأصليين الذين يشكّل وجودهم هاجسا دائما لإسرائيل، وإنكار حق العودة على اللاجئين الفلسطينيين، والرمي عرض الحائط بجميع قرارات الأمم المتحدة ومبادرات السلام من أي طرفٍ جاءت. وربما يلقي هذا الواقع الضوء على المصير التراجيدي لأحد أبرز قادة اسرائيل إسحق رابين، الذي اغتاله متطرّف يهودي، حالما أعلن نيته الدخول في مسار سلام وتسوية مع الفلسطينيين.
لم يكن أمام إسرائيل في هذه الحالة، بعد تقويض مفاوضات سلام أوسلو وإخفاق محاولات الترحيل الجماعي لسكان الضفة الغربية، وقبل أن تُطرح خلال الأزمة الراهنة مسألة ترحيل أهالي غزّة إلى سيناء بشكل علني اليوم، خيار آخر يسمح بتغييب الفلسطينيين وتحييدهم سياسيا، سوى إقامة جدار ثم نظام فصل عنصري شبيه بما عرفته جنوب أفريقيا في القرن الماضي. هكذا تحوّلت غزّة إلى «جيتو» كبير لمليوني فلسطيني. أما الضفة الغربية، فقسّمت إلى مجموعات من المناطق المحاصرة بالمستعمرات والمنذورة للتفكيك والاحتواء. وما كان لهذا الخيار أن يتحقّق إلا على أشلاء أيديولوجيات اليسار التي حكمت الرأي العام الإسرائيلي في مرحلة قيامها الأولى وانحسار أفكارها لصالح أيديولوجيات عنصرية، ساهمت في تغذيتها الإسلاموفوبيا التي سادت في الغرب، بسبب بعض العمليات التي قامت بها جماعات فلسطينية أو عربية على أرضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أيضا بمثل ما تغذّت منها. هكذا انحسرت التيارات الإسرائيلية الديمقراطية الأكثر اعتدالا، وسيطرت على الصراع السياسي الإسرائيلي الداخلي المزايدات بين يمين ويمين اليمين واليمين الأكثر تطرّفا، ما أدخل السياسة الصهيونية في أزمة أيديولوجية خانقة ووضع إسرائيل، كما أشار مراقبون عديدون ونقلته الصحافة، على أبواب حرب أهلية.
من الصعب لأحد أن يتنبأ بتطور الأحداث في هذا الصدام المتعدّد الأقطاب، إذ تجد جميع الأطراف نفسها في الخندق الأخير دفاعا عن رهاناتها. الفلسطينيون الذين يلعبون بورقتهم الأخيرة للحفاظ على حلمهم/ حقهم بفرض حلٍّ سياسي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل تضمّ ما تبقى لهم من فلسطين، وتنقذ تضحياتهم الهائلة قرنا كاملا تقريبا، وإسرائيل الصهيونية التي تلعب مصيرها دولة عنصرية لا شريك لها في فلسطين التي كانت، وينبغي أن تبقى أرضا من دون شعب لشعبٍ من دون أرض. وإلا سوف تُكره على القيام بتنازلاتٍ في هوية إسرائيل الصهيونية نفسها إذا اعترفت بوجود شعب فلسطيني، في إسرائيل أو خارجها.. وفي المقابل، لا يسمح التكتّل الغربي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، بنهاية لهذه المواجهة، يكون من نتيجتها تقزيم إسرائيل ونزع الطابع الاستثنائي عنها وإجبارها على الخضوع للقانون، وبالتالي، هزيمة الغرب الذي لا يرى فيها سوى امتداد له في الشرق الأوسط وقاعدة عسكرية أساسية، تضمن له نفوذه الاستثنائي في منطقة استثنائية من الناحية الجيوستراتيجية، ولا يزال يستخدم تفوّقها بنجاح منذ عقود لفرض إرادته على شعوبها وإجبار حكوماتها على الخضوع لحساباته وخدمة مصالحه.
لكن، مهما كانت قوّة التدخّل الإسرائيلي وأغراضه ونتائجه، وحجم الدعم العسكري والسياسي للحلفاء/ الشركاء الغربيين، لم يعد أمام إسرائيل، بعد صفعة «طوفان الأقصى» التي أعادت فلسطين إلى واجهة الأحداث، وأحبطت محاولات تغييب الشعب والقضية معا، سوى أحد خيارين: الدخول، ولو بعد أن تنتهي المعركة، في مفاوضاتٍ جدّية تنهي سياسة الإنكار، وتسعى إلى تطبيق حلّ الدولتين الذي أصبح يحظى بإجماع عربي ودولي شامل، أو الهرب إلى الأمام والتقدّم نحو حرب شاملة وحاسمة، تقضي على ما تعتقد تل أبيب أنه المشكلة الأساسية التي لا تزال تهدّد وجودها، والتي أخفقت في حلها، وهي محاولة إبادة الشعب الفلسطيني وتغييب حضوره السياسي الذي لم يكن بارزا وفاقعا لعين خصومه كما هو عليه اليوم، في مقاومته الاستثنائية من دون شك، لكن أكثر في طوفان دماء أبنائه الذي لا يتوقف. لكن لن يعني اختيار كهذا سوى سوْق المنطقة بأكملها نحو دوامة الهاوية بما فيها إسرائيل.
{ كاتب ومفكر سوري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك