لاحت نهاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر حزينة برحيل قطب من أقطاب الفكر العربي، المفكر والأكاديمي البحريني العريق الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم، أستاذ الأدب والنقد الحديث. عُرف الأستاذ إبراهيم غلوم في الأوساط الثقافية العربيّة، الخليجية بالخصوص، بوصفه مفكّرا وكاتبا مسرحيا وناقدا أدبيا، كما تشير إلى ذلك أعماله التي بدأها في مرحلة مبكّرة من حياته والتي تدفقت محمّلة بكثير من الهموم الفكرية العائمة في مشكلات التواصل الثقافي والتغيّر الاجتماعي، لقد عمل الأستاذ إبراهيم غلوم على تجديد الفكر النقدي الأدبي والمسرحي وعلى تحريره من سلطة البعد الواحد التي لا تعترف بحقيقة الارتباط المنهجي والمعرفي بين الأجناس الفنية والأدبية، بل واندماجها مع بنيات وسياقات بعيدة عن ساحتها. ولئن بدا في الظاهر أن حقل الجاذبية في تفكير الأستاذ إبراهيم غلوم يتمثل في القصة والمسرح، فإنّ المعارك الفكرية الحقيقية التي خاضها على امتداد ما يقارب نصف قرن لا يمكن الاطمئنان لإدراكها بسهولة من خلال درسه لفنون المسرح والقصة القصيرة واهتمامه المركّز بالثقافة الشعبيّة. إنّها في واقع الأمر معارك باتجاه السّرديات الكبرى، الفلسفيّة والأيديولوجيّة منها بالخصوص، التي تحكم الواقع الفكري والثقافي والسياسي في العالم. فهي، باختصار، معارك لوأد أنساق الهيمنة.
ولكن الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم لم يكن سجين هذه المعارك الفكرية. لقد كان منفتحا على حقول معرفيّة أخرى تبيّنتُها بعد أن التقيته للمرّة الأولى حين دعاني للتدريس بقسم الإعلام بجامعة البحرين عام 2003، القسم الذي أخلص في تكوينه وتطوّره ورعايته بشغف وحبّ كبيرين. كان وقتها قد أصدر كتابه «الثقافة وإنتاج الديموقراطية»، الكتاب الذي ازدانت بظهوره الساحة الأدبيّة والثقافية العربيّة والذي كشف الوجه الميديولوجي في فكر الأستاذ إبراهيم غلوم عندما يقرّر في كل موضع من مواضع الكتاب أنّ الثقافة هي النظام الدينامي لحركة التغيّر الاجتماعي. والتزامه بالمنظور الميديولوجي، كنّا، في قسم الإعلام، ونحن نستمتع بحضوره مشرفا على اجتماع القسم، بصفته عميدا لكلية الآداب، متابعا حريصا على تطوير أنشطة القسم العلميّة والتعليمية، كنا ندرك بعده من خلال عرضه وتحليله ومناقشته للقضايا البحثيّة والتعليمية في الإعلام والاتصال. لقد كان شديد الحرص على أن تعمل مقرّرات برنامج الإعلام، باتجاه براغماتي، تفضي مخرجاته إلى التحكّم في أساليب بناء المعنى وصناعة المضمون الإعلامي. ولأنّ الأستاذ إبراهيم غلوم لا يفصل بين سلطة الوسيلة وسلطة المضمون يقينا منه أن قوّة إحداها أو ضعفها يؤثّر في الأخرى، فقد كان مهتما مُجيدا لفنون الإخراج الصحفي بضوابط معرفيّة وبروح إبداعيّة وهو الذي لم يدرس إعلام. أذكر حين كنت أزوره بمكتب مجلة العلوم الإنسانية، المجلّة التي يرأس تحريرها، وكان يستقبلني بانشراح عميق، يحدثني عن تخطيطه لإخراج المجلة شكلا ومضمونا فهو الذي يختار نوعية الخط وسمكه ونوعية الورق ولونه وتصميم الغلاف واختيار لوحة الغلاف والصفحات وإخراج العناوين... إنّه، في الآن ذاته رئيس تحرير وأمين تحرير ومخرج فني بامتياز. فالإتقان والتفاني والصدق في العمل من أبرز سماته الشخصيّة فضلا عن بشاشته وتواضعه الجمّ. فكما رأيته مفتونا برعاية أشجار حديقة بيته وورودها، كلّما استضافني في منزله، رأيته كذلك في سائر أعماله الأخرى، الإداريّة والعلميّة والعمليّة. فحضوره لاجتماعات القسم، قسم الإعلام بجامعة البحرين، لم يكن مجرّد حضور إداري للمتابعة والتوجيه فقط، إنّما هو حضور مفعم بحب العمل ومنتج نظريّا ومنهجيّا، حضور يُعرب عن فكر موسوعي يؤمن بالتناهج بين الحقول المعرفيّة، ويدرك ما لا يدركه العديد من الإعلاميين والاتصاليين من أنّ قضايا الإعلام هيّ قضايا مركّبة لا تعمل ببراديغم أو مفهوم التبسيط، وتحتاج إلى جسور تواصل مع العلوم الأخرى.
ولا شكّ أن اهتمام الأستاذ إبراهيم غلوم المتزايد بالدراسات الثقافية والثقافة الشعبية قد هيّأ له أن يكون موصولا بمسارات الفلسفة واللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم الإعلام والاتصال والنقد الأدبي وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى، لمواجهة رهانات الفكر وإدراك مظاهر التعقيد في الواقع. وله تمسّك خاصّ بأهميّة البعد الأنثروبولوجي إذ يعتبره المصمّم الحقيقي للعبة القواعد التي تصبح بمقتضاها الثقافة نظاما ديناميّا منتجا للاعتراف بالتنوّع والاختلاف. كان يؤسّس في الواقع لنظرة أنثروبولوجيّة خاصة تحرّر الثقافة العربيّة من هندستها الخطيّة التي جعلت دائرة الحوار والتثاقف مستحيلة، واستمرّ يحذّر في الآن ذاته من خطورة تغييب الواقع الانثروبولوجي، فقد تتحوّل الثقافة بمقتضى غيابه إلى «رعب» اجتماعيّ مرفوق تارة بشرعيّة الفاعلين في نظامها كما هوّ الحال بالنّسبة إلى ثقافة الدولة، وممزوج تارة أخرى بوهم المعرفة المطلقة مثلما هوّ الشأن بالنّسبة إلى ثقافة النّخبة الموغلة في التنظير أو الغارقة في الإملاء على الآخرين ما يجب فعله. فارتقاء الفهم عند الأستاذ إبراهيم غلوم، للكشف عن آفاق جديدة لحركة التغيّر الاجتماعي، منوط بنظرة بينيّة interdisciplinary إلى حقول العلوم الإنسانية والاجتماعيّة. وكثيرا ما كان يذكّرنا، في المناسبات الرّسميّة وغير الرّسميّة، بضرورة تغيير عاداتنا الفكريّة باتجاه بيني لتشييد الذات العلميّة الحقّة.
والذات العلميّة عنده لا تتشكّل داخل أسوار الجامعات والمكتبات بمعزل عن واقع المجتمع وطبائعه، إنّها من منظوره، موصولة بالتراث الشعبي وأحوال الناس وعاداتهم. فليس مستغربا أن أرى الأستاذ إبراهيم غلوم، ليأخذني معه، في رحلة خلاّبة إلى عمق الأحياء الشعبيّة بالمنامة، رحلة أنس تقودنا إلى مطاعم عابرة للأزمنة والعصور، حيث روائح الشواء المتصاعدة تغزو أجواء المدينة العتيقة. ومن تواضعه الجلوس إلى الطاولات الخشبية المتراصفة أمام محلات الشواء أين يكون الناس قريبين من بعضهم البعض. من الجائز أنّه أفضل مكان للإحساس بمشاعر عامّة الناس ومخالجهم. فالمسافة بينه وبين الثقافة الشعبية صفر. وحول تلك الطاولات الخشبيّة، كان يروي لي تاريخ المنامة، تاريخ لم أقرأه في الكتب. ومن تواضعه وكرمه الفيّاض أنّه، كان عندما يزورني في بيتي بمنطقة الجفير، لا يأتي إلاّ ومعه شيء لوالدتي. فقد كان يسعد بالحديث معها بلهجة الحاذق للدّارجة التونسيّة، وهو البَرٌ بوالدته.
رحمك الله أيها الصديق العزيز، وتغمّد روحك بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنك فسيح جناته، واسمح لي في سياق الحال أن أستعير منك العبارة التي كنت ترسمها بخطك الأنيق على الغلاف الداخلي، كلّما أهديتني كنزا من كنوزك الفكريّة والأدبيّة، يا «أكثر من له دلالة على قلبي...».
{ أستاذ علوم الإعلام والاتصال
hidri.adam@yahoo.fr
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك