مع الموقف المراوغ الذي اتخذته الحكومات الغربية وإعلامها من طوفان الأقصى، يحاول هذا المقال أن يستكشف أثر هذا الموقف الغربي على صورة الغرب لدى الشباب العربي الذى خرج في مظاهرات عارمة في العديد من الدول العربية تأييدا للشعب الفلسطيني.
طبعا المصادر العلمية الضرورية للإجابة عن هذا السؤال، في صورة استطلاعات الرأي مثلا، ليست متوافرة، ولكن أهمية السؤال تدعوني إلى طرح استنتاجات سريعة استنادا إلى متابعتي للمواقف الرسمية ولبعض القنوات الإعلامية الغربية.
الموقف الغربي الرسمي كما عبر عنه قادة الحكومات الغربية، سواء في الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، هو أن ما جرى في السابع من أكتوبر هو هجوم استهدف سكانا مدنيين قامت به «حركة إرهابية» هي منظمة حماس، وأنه تخلى عن القواعد «المتحضرة» في العمل العسكري، ونظرا لأن ضحايا هذا الهجوم هم مواطنات ومواطنو وجنود دولة إسرائيل، فإن من حقها وبموجب القانون الدولي أن تدافع عن نفسها، حتى لو وصل دفاعها إلى اجتثاث حركة حماس، وهو أمر مطلوب، لأن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، فهناك السلطة الفلسطينية. وعندما اتضح أن رد الفعل الإسرائيلي قد تجاوز قواعد القانون الدولي، وامتد إلى فرض عقاب جماعي على الشعب الفلسطيني «المدني»، نصحت هذه الحكومات إسرائيل بأن تلتزم بقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني، وأن تسهل وصول المعونات إليه في قطاع غزة.
لماذا يسبب هذا الموقف الغربي سخط قطاعات واسعة من العرب كما تكشف ذلك تعليقات الصحف وقنوات التلفزيون التي تتمتع بقدر معقول من الحرية، والتصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهتافات المتظاهرين والمتظاهرات في المدن العربية يوم الجمعة الماضى؟ هل ذاكرة الحكومات الغربية قصيرة إلى هذا الحد؟ تذكر فقط ما جرى في 7 أكتوبر، ولكن اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي كانت تتكرر يوميا في الفترة الأخيرة خصوصا حول المسجد الأقصى وفي جنين قد سقطت من الذاكرة الغربية، والحصار الصارم حول غزة منذ سبعة عشر عاما قد طواه الزمان، وحروب إسرائيل الأربع السابقة على غزة (2006، 2012، 2014، 2022) التي راح ضحيتها آلاف من الأطفال والنساء وكبار السن فضلا عن الشباب هي أمور طواها النسيان، لماذا توقفت كل المؤسسات التشريعية في هذه الدول عن إدانة هذه الاعتداءات المتكررة على مدنيات ومدنيين فلسطينيين؟ ولماذا اعترضت على إدانتها في المحافل الدولية وخصوصا في مجلس الأمن في الأمم المتحدة؟ ولماذا تؤيد الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة بدعوى أنها دفاع عن النفس في مواجهة منظمة إرهابية بينما من الواضح لكل من له بصر وبصيرة أن حماس ليست جيشا نظاميا يتواجد في معسكرات تستهدفها آلة الحرب الإسرائيلية، وإنما هي حركة سياسية لها جناحها المسلح بين آلاف من الفلسطينيات والفلسطينيين في غزة، بينما يوجد في القطاع أكثر من مليوني مواطن منهم أطفال ونساء وشباب ومتقدمون في السن، ومع استبعاد الأطفال، فلا يمكن القول بأنهم جميعا أو في غالبيتهم ينتمون إلى حماس سواء في تنظيماتها السياسية أو جناحها العسكري، وحتى بالاستناد إلى آخر انتخابات جرت في غزة في سنة 2006، كان أكثر من نصف الناخبين ينتمون إلى منظمات سياسية أخرى كانت أكبرها فتح التي هي عماد السلطة الوطنية الفلسطينية.
هذه القراءة السريعة للواقع السياسي الفلسطيني تكشف أن الحرب التي تشنها إسرائيل على حماس هي بالضرورة حرب على الشعب الفلسطيني في غزة، فلا يمكن لا للطائرات الإسرائيلية ولا للصواريخ التي تطلقها أو قذائف الدبابات التي ستمطر بها غزة أن تفرق بين مناضلي حماس ومئات الآلاف الآخرين من الفلسطينيين، والدلائل على ذلك متاحة لمن يشاهد تقارير مراسلي التلفزيون، وتقارير منظمات الأمم المتحدة أو تقارير المنظمات غير الحكومية العاملة في غزة وفي مقدمتها مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية، فضلا عن منظمة العفو الدولية، وبكل تأكيد أن ممثلي هذه الحكومات في غزة يعرفون هذه الحقائق.
سوف يدافع ممثلو هذه الحكومات الغربية عن مواقفها هذه قائلين إنهم ليسوا غافلين عن معاناة الشعب الفلسطيني، ولذلك يطالبون بتسهيل وصول المعونات إليه، ولكنهم يقومون بدور الوكيل عن إسرائيل عندما يطالبون حكومات عربية، وفي مقدمتها الحكومتان المصرية والأردنية بأن تتولى استقبال اللاجئين الفلسطينيين، وتسهل بذلك على إسرائيل ما يدعو إليه قادتها المتطرفون من ضرورة ترحيل هؤلاء الفلسطينيين إلى دول مجاورة ليكون لهم وطنهم البديل هناك، مع استعدادهم لتقديم المعونات المالية للحكومات التي تقبل ذلك. بعبارة أخرى، هم يتواطؤون مع إسرائيل في انتهاكها قواعد القانون الدولي الذي يدافعون عنه ليس فقط بعدوانها على السكان المدنيين وحرمانهم من أبسط ضرورات الحياة، ولكن حتى بتغيير الطابع الديموغرافي للأراضي المحتلة، وهو ما ينهى عنه القانون الدولي للحرب، واتفاقات جنيف بالنسبة لمعاملة السكان المدنيين تحت الاحتلال. وعندما لا تلقى دعوات التهجير هذه آذانا صاغية من تلك الحكومات العربية، ينصاعون لإرادة الحكومة الإسرائيلية التي ترفض في حقيقة الأمر السماح بمرور المعونات والتوقف عن الإغارة على الأماكن التي ستمر من خلالها.
بل الأخطر من ذلك كله أنهم يتجاهلون النتائج التي ستترتب على مضي آلة الحرب الإسرائيلية في تنفيذ مخططها المعروف بشن حرب برية تنتهي باحتلال غزة وإدارتها مباشرة من جانب إسرائيل أو دول وقوات حليفة، وهو مخطط يبدو ضربا من الجنون، ليس فقط للثمن الإنساني الفادح الذي سيدفعه الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي على السواء، فلن يكون احتلال غزة نزهة للقوات الإسرائيلية كما أدرك قادتها في الحروب السابقة، وكما تعلموا من تجربتهم في حكم غزة، واضطروا إلى الخروج منها في 2005، ولكن مثل هذا الإجراء الأحمق يمكن أن يشعل حربا إقليمية بدخول أطراف أخرى عربية وغير عربية، ويهدد مصالح هذه الدول ذاتها، ومع ذلك تستسلم له، ولا تقاومه، ويكتفي بعض قادتها مثل الرئيس بايدن بدعوة الحكومة الإسرائيلية بـألا يلتهمها الغضب، بأن تفرط في رد فعلها باحتلال غزة الذي يحذر منه بعض أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة، ثم يطلب لها في نفس الوقت معونة عسكرية تقدر بعشرة مليارات من الدولارات، وهو ما سيشجعها على المضي في تنفيذ مخططها هذا.
لا أظن أن الحكومات الغربية بمثل هذه المواقف التي تكاد تصل إلى حد التواطؤ مع إسرائيل في شن حربها على الشعب الفلسطيني سوف تكسب مودة الشعوب العربية، فبينما كان البعض يتوقع أن يقوم الإعلام الغربي، والذي يغطي العالم كله، بدور مخفف من هذا التحيز الصارخ، فإن تغطيته للشأن العربي ــ الإسرائيلي عموما تغذي هذه الصورة السلبية عن العدالة الغربية ومدى اتساق مواقف الحكومات الغربية مع مبادئ حقوق الإنسان التي تدعي التزامها بها وتحكم على الحكومات الأخرى على أساس مدى اتساق سلوكها معها. ودور الإعلام أخطر في هذا المجال، فبينما لا تصل الشعوب العربية إلى بيانات وتصريحات الحكومات الغربية وقد لا يفكر في ذلك غير الأشخاص المتخصصين في العلاقات الدولية، تشاهد الشعوب العربية في المنازل والمقاهي القنوات الغربية المتاحة بالعربية أو باللغات الأخرى التي يجيدونها وخصوصا القنوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية.
لا يتسع المقام هنا لعرض أمثلة تفصيلية لتحيز هذه القنوات والصحف ليس فقط من خلال الحوارات التي تجريها ومقالات الرأي فيها، ولكن تكفي مقارنة الوقت المخصص لشرح وجهة النظر الإسرائيلية وذلك المخصص لشرح وجهة النظر الفلسطينية، أو ذلك الذى تحظى به تقارير المعاناة من جانب إسرائيليين إلى جانب تقارير آثار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. بل ولقد خبرت بنفسي وجهة النظر الأحادية في طرح بعض الموضوعات من جانب هذه الأدوات الإعلامية، فقد سألني مراسلون لقنوات وصحف مشهورة عالميا حول سبب رفض الحكومة المصرية هجرة الفلسطينيين وهل الطبيعي أن يغادر الفلسطينيون والفلسطينيات وطنهم؟ وألا تعود صعوبات إيصال المعونات لرفض إسرائيل ذلك وربطها المعونات بتحرير الأسرى لدى حماس؟ ثم تعمدها وضع الصعوبات في طريق مرور المعونات بالإغارة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح أربع مرات متتالية. لا أظن أن مراسلي هذه الصحف والقنوات الشهيرة يجهلون ذلك، ولكن تلك رغبة إدارة هذه المؤسسات أن تظهر إسرائيل في صورة البريء وأن يكون المتهم دائما عربيا.
لا بد أن أنبه أن هذه القنوات الإعلامية على الرغم من تحيزها الثقافي والسياسي ضد العرب، فهي تتميز أيضا بالتنوع، وأن هناك أصواتا أمينة ومنصفة تجد طريقها على صفحات بعض هذه الجرائد وبين مراسلي ومقدمي البرامج في بعض القنوات التلفزيونية وخصوصا الأمريكية والبريطانية، وأقل من ذلك بكثير في القنوات الفرنسية.
المدهش في الأمر أن هذا الموقف المشترك بين الحكومات والإعلام الغربي الذي أصفه بأنه سواء كان حكوميا أو خاصا، فهو إعلام المؤسسة الحاكمة، لا يلقى قبولا من بعض قطاعات الرأي العام في هذه الدول. رفض الموقف الغربي من هذا العدوان الأخير على غزة واضح من خلال مظاهرات عمت العديد من المدن الأوروبية والأمريكية. ثلاثون من منظمات الطلاب في جامعة هارفارد الأكثر تفوقا عالميا خرجوا في مظاهرات تندد بموقف الحكومة الأمريكية. استقال مسؤولون في الخارجية الأمريكية احتجاجا على هذه السياسات، واحتج المئات من العاملين في مقر الاتحاد الأوروبي على تصريحات أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية المناصرة لإسرائيل، بل طالبت جماعات يهودية داخل الكونجرس الأمريكي بوقف إطلاق النار في غزة.
كتب كثيرون عن أزمة الشرعية داخل النظم السياسية الغربية، ولعل الفجوة بين الحكومات الغربية وقطاعات من الرأي العام في بلادها حول الموقف من طوفان الأقصى هي أحد مظاهر هذه الأزمة. وإذا كان موقف الحكومات الغربية مما يجرى في فلسطين لا يدعو العرب إلى أن يكنّوا كثيرا من الود تجاهها، فإن مواقف هذه القطاعات المنصفة لا يجعلنا نختصر الغرب في حكوماته أو في إعلامه.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك