هل يتقرر مصير النظام الدولي في الشرق الأوسط؟ هذا السؤال يطرح نفسه على اللاعبين الكبار الدوليين المنخرطين بالحرب الأوكرانية.
بقوة تداعيات ورسائل حرب غزة يتبدى في هذه اللحظة تغيير جوهري على سلم الأولويات وحسابات المصالح والاستراتيجيات الدولية المتصادمة.
في (7) أكتوبر لحقت هزيمة مذلة بالجيش الإسرائيلي، وبدت الدولة العبرية منكشفة ومهزوزة بصورة لم يسبق أن تعرضت لها من قبل. هرعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» إلى نجدتها. هذا تطور له ما بعده ويؤشر إلى سيناريوهات جديدة تطرق أبواب الشرق الأوسط.
أرسلت واشنطن إلى شرق المتوسط بالقرب من إسرائيل حاملتي الطائرات «جيرالد فورد» و«إيزنهاور» وسفنا حربية وألفي جندي مارينز على أهبة التأهب للانتشار وبالوقت نفسه أرسلت لندن بوارج حربية إلى المكان نفسه. تدفق رؤساء دول ووزراء خارجية ودفاع المنظومة الغربية إلى تل أبيب على نحو يكاد يشبه في أجوائه وتفاصيله ما يحدث مع أوكرانيا.
في الحالة الأوكرانية، فإن العدو الروسي قوة عظمى نووية ولديه ترسانات سلاح وتحالفات استراتيجية واقتصادية تمكنه من التحدي والصمود.
وفي الحالة الإسرائيلية، فإن العدو الرئيسي فصيل فلسطيني مسلح يتمركز في منطقة ضيقة جغرافيا ومكتظة بالسكان وأوضاعه الاقتصادية خانقة تحت الحصار. المقاربة تنطوي على مفارقة كبرى غير قابلة للتصديق، لكنها حاضرة ولا يمكن نفيها.
في كييف تطرح التساؤلات القلقة نفسها على الحلفاء الغربيين عما إذا كان ممكنا حسم المعارك بأي مدى منظور؟! وفي غزة يصعب توقع ما قد يحدث في اليوم التالي لانتهاء المواجهات العسكرية.
الهجوم الأوكراني المضاد يتعثر على جبهات القتال واستطراد الدعم الأمريكي المالي والعسكري مشكوك فيه بعد أزمة التمويل الحكومي، التي كادت تغلق المؤسسات الفيدرالية.. والأوروبيون يؤكدون التزامهم بدعم أوكرانيا لكنهم يشعرون بالوقت نفسه تحت وطأة الكلفة الاقتصادية والعسكرية الباهظة أن ذلك لا يمكن أن يستمر طويلا.
باسم دعم إسرائيل وحقها في الدفاع عن أمنها هرع الرئيس الأمريكي «جو بايدن» ووزيرا خارجيته ودفاعه وقائد القيادة العسكرية المركزية لزيارة تل أبيب والاشتراك الفعلي في إدارة الحرب ومُدت جسور جوية لإمدادها بما تحتاجه من ذخائر وأسلحة.
كان لافتا أن عشرات آلاف القذائف التي كان مقررا إرسالها إلى كييف نقلت إلى تل أبيب.
جرت تعبئة في مجلسي الشيوخ والنواب لإصدار قرارات لدعم إسرائيل سياسيا وعسكريا بصورة تفوق ما جرى في الأزمة الأوكرانية.
الحسم في غزة قد يبدو سهلا نظريا على الولايات المتحدة لتأكيد قيادتها في عالم يتغير، لكن رمال الشرق الأوسط المتحركة، كما هي العادة، قد تغرق أي رهانات على مثل هذا الحسم.
التدخل البري الإسرائيلي باهظ الكلفة، والعالم العربي غاضب، المظاهرات والاحتجاجات الشعبية تتصاعد في عواصمه وجنباته، وسيناريو التهجير القسري من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى في الأردن، يكاد أن يكون دعوة إلى حرب إقليمية واسعة تفتح جبهات جديدة وتشارك فيها دول ومنظمات مسلحة عديدة.
مشكلة السياسة الأمريكية انسداد أي أفق سياسي وغياب أية نظرة تتجاوز القوة المجردة والدعم المطلق للحليف الإسرائيلي. نفس المشكلة تتبدى في الحرب الأوكرانية. لا توجد أي آفاق سياسية لإنهاء الصراع الدامي على أراضيها .الحقائق على الأرض لا ترجح أي انفراج سياسي قريب.
طرفا المواجهة العسكرية روسيا من جهة وأمريكا وحلف «الناتو» من جهة أخرى يدركان أن الحرب في جوهرها تعبير عن صراع محتدم على مستقبل النظام الدولي، وأن أوكرانيا مجرد ميدان اختبار بالسلاح لحقائق القوة.
الأوضاع تختلف في غزة، لكن الاختبار نفسه حاضر بقوة. لا توجد حتى الآن أية مقاربة غربية لوقف التصعيد لإتاحة الوقت أمام الجيش الإسرائيلي للحسم الميداني، رغم الخسائر الفادحة في صفوف أهالي غزة الذين يتعرضون لإبادة جماعية.
بفيتو أمريكي جرى إجهاض مشروعي قرارين لمجلس الأمن الدولي يتبنى هدنة إنسانية، إحداهما روسي ــ إماراتي، والآخر برازيلي.
لا يوجد لموسكو حضور سياسي فاعل ومؤثر على ساحات القتال، لكنها بدأت تجري اتصالات مع الأطراف الإقليمية الفاعلة لمحاولة بناء تصور سياسي على أساس القرارات الدولية.
بعد وقت أو آخر سوف تجد موسكو نفسها مدعوة للدخول إلى مسارح الصراع على مستقبل القضية الفلسطينية، قضية القضايا في الشرق الأوسط. الحضور الصيني بدوره خافت، لكنه يتحسس مواضع أقدامه في منطقة ملغمة بالحسابات المتصادمة.
أرسلت مندوبا خاصا إلى الشرق الأوسط يستطلع فرص التهدئة الممكنة دون أن تضعها على رأس أولوياتها. الإدراك الغربي لأهمية الصراع على الشرق الأوسط في تقرير مستقبل المنطقة والنظام الدولي يفوق الإدراك الروسي والصيني معا، لكن المعادلات قد تتغير تاليا.
بصورة أو أخرى الحقائق سوف تداهم الأطراف الدولية المنخرطة في الحرب الأوكرانية أن مستقبل الصراع على قيادة النظام الدولي في عالم يتغير، ربما يتحدد في الشرق الأوسط، أكثر أقاليمه اشتعالا بالأزمات والنيران.
لا يمكن لأية سياسة أمريكية، أو غير أمريكية، إنكار عدالة القضية الفلسطينية وحق شعبها في تقرير مصيره بنفسه. ولا يمكن لأي صاحب ضمير أن ينكر المجازر الإسرائيلية الوحشية بحق غزة، أهلها وبيوتها ومستشفياتها.
بتداعيات حرب غزة ارتفعت أصوات داخل الولايات المتحدة ترفض الانحياز المطلق لإسرائيل، جرت استقالات احتجاجية لبعض كبار الموظفين والدبلوماسيين في وزارة خارجيتها.
كان لافتا المظاهرات الصاخبة أمام مبنى الكونجرس الأمريكي لجمعية «أصوات يهودية من أجل السلام» مطالبة بوقف الحرب على القطاع المحاصر. حركة «حياة السود مهمة»، الأمريكية التي تناهض التفرقة العنصرية، تعلن دعمها للفلسطينيين، فحياتهم أيضا مهمة.
في الحرب الأوكرانية لم ينجح التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، رغم إمدادات السلاح المتقدم وتعبئة كل الموارد والإمكانات، في إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا تجهض أي أدوار قيادية مستقبلية تتطلع إليها. شيء من ذلك الإخفاق سوف يحدث في حرب غزة، أيا كانت نتائج التدخل البري.
أخطر النتائج والتداعيات، التي قد تترتب على حرب غزة، رفع منسوب خطاب الكراهية والعنف في المجتمعات الأوروبية وداخل أمريكا. في أسبوع واحد قتل طفل فلسطيني في شيكاغو بـ(26) طعنة على يد يهودي بولندي تأثر بالدعايات، التي ثبت كذبها، عن اغتصاب النساء وقطع رءوس الأطفال أثناء عملية «طوفان الأقصى».
جرت بالتزامن عملية إرهابية في بروكسل نالت من حياة اثنين من المواطنين السويديين على خلفية حرق المصحف الشريف في ستوكهولم. لم يكن هناك ارتباط بين ذلك الحادث الإرهابي والحرب في غزة، لكن السياق العام يؤشر إلى اتساع محتمل لمثل تلك الحوادث.
لندن تخشى هجمات إرهابية، كما تعلن سلطاتها الأمنية. باريس قلقة من مواطنيها العرب والمسلمين ومستويات الغضب في مدنها. ودول أوروبية أخرى تتحسب للعواقب والتداعيات.
ربما يولد النظام الدولي الجديد فوق بحيرات دم في أوكرانيا والشرق الأوسط.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك