بعيدًا عن الأطروحات السياسية، وبعيدًا عن أجواء الحرب، وبعيدًا عن كل تلك الأجواء التي نعيشها منذ السابع من أكتوبر 2023، وبعيدًا عن القيل والقال، وتجريم الفئات والجماعات، دعوني أفكر معكم في هذه الحرب، ولكن بطريقة مختلفة نوعًا ما.
هذه الأحداث التي تجري اليوم تجرني بقوة إلى الحديث النبوي الشريف، الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت». رواه أبي داوود وصححه الألباني.
الحديث النبوي واضح وصريح، ولكن لنعيد تخيل الوضع الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يتحدث عن الأمة العربية والإسلامية، والذين يشكلون اليوم حوالي 25% من سكان الكرة الأرضية، هذه الأمة ما زالت حية ولكنها تعيش لحظة الخدر، وعلى الرغم من ذلك تجد نفسها مستلقية على طاولة الطعام، وحولها كل الأمم، وكل شخص من الذين حول الطاولة بيده سكينة وشوكة يحاول من خلالهما قطع ونهش أكبر قطعة لحم من جسم الأمة، والأمة تصرخ من الألم والجميع من حولها يضحك ويرقص ويغني.
وتستمر عملية القطع والنهش في العضلات والأعصاب الصغيرة من أجل الوصول إلى العصب الرئيسي، لقطعه ولتنهي حياة هذه الأمة المستلقية على طاولة الطعام، والأمة تصرخ ولكنها لا تفعل شيئا. وعلى الرغم من هذا الوهن الذي تعيش فيه إلا أنها تملك كل مقومات الحياة والمقاومة والفكر، وكذلك العضلات وقوة الجسم وصلابته، إلا أنها عاجزة لأن أعضاء الجسم مختلفة في التوجهات، فاليد –مثلاً –تريد أن تقاوم ولكن الرجل تريد أن تهرب، والفكر يحارب العقل، والعقل يريد النوم ولا يريد أن يصدر الأوامر، والعين تحاول أن تغمض الجفون ولكن الأذن تسمع كل ما يجري، وهكذا، فهذا الجسد الممدد على طاولة الطعام والذي يُنهش ويُقطع هو نفسه في حالة من الصراع الداخلي الطاحن.
جسد عملاق وقوي، إلا أنه عاجز، ليس لأنه يريد أن يبقى هكذا، ولكن تم إيهامه بالكثير من الطرق والوسائل أنه من الأفضل له وللكرة الأرضية والشعوب وبقية الحضارات أن يبقى هكذا، وذلك لأن نهوضه يعني عودة الظلامية والفكر الظلامي والتكفيري وإلغاء كل مظاهر الحضارة والتطور والتكنولوجيا وعصر الفضاء وإنتاجات هوليوود والفكر الحديث وما إلى ذلك، لذلك اعتقدت أعضاء هذا الجسد الممدد أنه ينبغي لها أن تتطهر، وتطهيرها لا يتم إلا من خلال تقطيع أواصر الجسد والأعضاء التي لا تُسارع إلى الالتحاق بقطار الحضارة.
والغريب في الموضوع أن هذا الجسد المُلقى جسد عملاق، وهو (كثير)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله أحد الصحابة رضوان الله عليهم عن سبب العجز إن كان السبب قلة العدد، بمعنى أن عدد المسلمين في ذلك الوقت الذي يقصده رسول الله صلى عليه وسلم عدد كبير، وهو بالفعل إذ تشير آخر الإحصائيات أن عدد المسلمين في الكرة الأرضية لا يقل عن 2 مليار نسمة في مقابل حوالي 8 مليارات وهو عدد سكان الأرض، ولكن هذه الكثرة –كما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم –غثاء كغثاء السيل، أي هباء، وهو الزبد (الزباد كما نقول في اللهجة الدارجة) الذي عادة ما يوجد فوق سطح الماء، لا قيمة له ولا يُعطى أي اعتبار، يسير هذا الزبد مع التيار ويتطاير مع نسمة هواء خفيفة، فلا يشكل أي أهمية ولا قيمة ولا فائدة، وفي النهاية هو موجود لأن حركة تيارات المياه تصنعه.
لنعيد الآن تقييم الأمة حسب ما جاء في الحديث النبوي الشريف، فهل نحن في مثل هذا الوضع؟
ولنفرد خريطة الكرة الأرضية، فماذا نجد؟
* هناك شعوب وحكومات تقوم بقتل ممنهج للمسلمين حسب ما تريد وما تشتهي، ولا أحد يتكلم، بل على العكس تجدنا نصمت لأننا نراعي مصالحنا التجارية معهم.
* هناك شعوب تحرق القرآن الكريم، مرارًا وتكرارًا، أمام ناظري المجتمع الدولي، فما يكون منا إلا أن نتكلم ونتحلطم ولكننا لا نشكل أي ثقل.
* هناك حكومات تعتبر الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حرية تعبير، ونحن نعجز عن الرد.
* هناك حكومات أجنبية تدخل الأراضي العربية بقوة السلاح وتغير الأنظمة وتقلب الموازين، والجميع يتفرج.
* تُفرض علينا المناهج والفكر الغربي، لنعيد كتابة التاريخ، ولنتهم أجدادنا الفاتحين أنهم ظلاميون، وأنهم إرهابيون، ونحن نصفق.
والكثير من تلك الأمور التي تجري على الساحة، وعلى الرغم من ذلك لا استجابة.
وربما أخيرًا ما حدث في السابع من أكتوبر، ولا يهمني هنا الحرب، وما يجري على ساحة القتال، ولكن الذي يهمني في هذا المقال فكر رجالات الفكر في الوطن العربي، فعندما نُشرّح الوضع الفكري عند المواطن العربي نجد أن الناس في الوطن العربي قد انقسموا إلى عدة فئات وجماعات، وهي كالتالي:
* جماعة من الناس تقف بكل قوة ووضوح مع الجماعات العربية المقاتلة، ومن غير تردد.
* جماعة تخالف وتقف في جبهة معاكسة للجماعة الأولى تمامًا، إذ تجد أن تلك الجماعة العربية إرهابية وقاتلة ولا بد من القضاء عليها،
* جماعة ثالثة لا تعرف مع من تقف، فهم يريدون أن يتخذوا موقفًا إلا أنهم لا يعرفون، لأنهم لا يقرؤون ولا ينتمون، فهم في حيرة من أمرهم،
* وجماعة رابعة، لا يهمهم ما الذي يجري، وكأنهم يقولون «فخار يكسر بعضه بعضا»،
* وجماعة خامسة، تحاول أن تتفلسف وتجادل وتحلل عسكريًّا وسياسيًّا وفكريًّا وتقول، لمجرد أن تقول، تارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء، فهم يحاولون أن يمسكوا العصا من المنتصف حتى لا تنفرط السبحة، حتى يقال عنهم أنهم (مثقفون أو مفكرون).
وربما كانت هناك جماعات أخرى لا أعرفهم، ولكن من خلال متابعاتي لكل ما يجري على الساحة العربية وجدت أنه يمكن تقسيم الشعوب العربية إلى هذه الفئات، والآن –عزيزي القارئ– إلى أي الفئات ننتمي؟
وهنا يأتي السؤال المهم؛ ما الذي أوصل الإنسان العربي إلى هذا التشتيت الفكري؟ على الرغم من أن قضية فلسطين كانت تجمع كل الأطياف في بوتقة واحدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؟
تقول جولدا مائير في كتابها (قصة جولدا مائير –قصة حياة رئيسة وزراء إسرائيل) عندما حذروها بأن عقيدة المسلمين تنص على حرب قادمة بين المسلمين واليهود سوف ينتصر فيها المسلمون عند اقتراب الساعة فقالت: «أعرف ذلك، ولكن هؤلاء المسلمين ليسوا من نراهم الآن، ولن يتحقق ذلك إلا إذا رأينا المصلين في صلاة الفجر مثلما يكونون في صلاة الجمعة».
وذات مرة طُرح عليها سؤال بعد حرب 1967، وهو: ألا تؤمنين بالتوراة؟ فقالت: بلى، وربما أؤمن بها أكثر منك. فرد عليها الصحفي: لماذا لا تتجنبين الحرب مع جوارنا المسلمين، وقد وعدنا الكتاب أن زوال دولتنا ستكون على أيديهم؟
أجابت: ذلك لأنكم لم تفهموا الكتاب جيدًا، حقًا وُعدنا بذلك وهو أمر واقع لا محالة، ولكن فاتك أن الكتاب حدد شرطًا ولم يحدد وقتًا، فلن يتم ذلك إلا بأيادي عباد مؤمنين (أولي بأس شديد)، فهل تراهم على الساحة فيصيبك القلق؟ مهمتنا نحن والأجيال القادمة أن نعمل بكل كد ودأب أن نؤخر وصول هؤلاء العباد إلى سدد الحكم، ونُقنع شعوب الجوار أن مثل هؤلاء خطر داهم عليهم هم أنفسهم وليس علينا، وبقدر اجتهادنا وبقدر ما نؤخرهم تستمر دولتنا هي الأعلى.
ثم أنهت حديثها وقالت: نحن في صراع عقائدي وفكري، أكثر من كونه صراع معارك حربية ومنازعات. (انتهى حديثها).
وعند العودة إلى الوراء أكثر من ذلك، فإننا نجد أن الأمة العربية تعاني هشاشة الفكر أكثر منها هشاشة قوة جسد وسلاح، وذلك منذ أن وطأت أرجل الاستعمار الأراضي العربية، ولم يغادر الاستعمار الأراضي العربية إلا وأحدث شرخًا فكريًا من البلاد التي يخرج منها، وذلك على الرغم من أساليب وتنوع الاستعمار الغربي.
فالإنسان العربي يعيش الآن:
* ازدواجية الشخصية العربية، فهو ينتمي إلى الواقع العربي إلا أنه واقع تحت سيطرة الفكر الغربي.
* انسحاب الفكر العربي الإسلامي، واتهامه بالظلامية والعشوائية والتكفيرية، لذلك وجد الإنسان العربي نفسه أن انتماءه للأمة العربية الإسلامية أصبح موضع اتهام.
* تحت وقع المطارق التي تحاول أن تهدم كل الفكر والتاريخ العربي الإسلامي، فتارة يتهم الفكر الإسلامي بالدجل والسحر والشعوذة، وتارة بمحاربة التطور والتقنيات الحديثة، وتارة أخرى بنشر الإرهاب والفكر الدموي، إذ تدعي تلك المطارق أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف.
والأسوأ من كل ذلك، إن من يقوم بهذا العمل وينشر الإحباطات ويقوم بتقطيع أواصر ذلك الجسد العملاق الممدد على طاولة الطعام اليوم، هم من أبناء هذه الأمة.
عزيزي القارئ، اسأل نفسك اليوم، من أي الفئات أنت؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك