يلوح شبح نكبة فلسطينية وعربية ثانية في أفق القصف الإسرائيلي العشوائي المتصل على غزة للانتقام من بيوتها وأهلها بعد عملية طوفان الأقصى، التي أذلت جيشها كما لم يحدث من قبل.
تتصاعد عمليات التقتيل والترويع لإجبار أكثر من مليون فلسطيني على النزوح من شمال غزة إلى جنوبها تمهيداً لتوطينهم في سيناء على ما تخطط إسرائيل.
في النكبة الأولى (1948)، أجبر نحو (750) ألف فلسطيني على النزوح من ديارهم وقراهم بالترويع والمجازر، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية المسلحة.
بعد (75) عاما تتكرر مشاهد الترويع بصورة أفدح، تقتيل جماعي بكتل نيران هدمت بنايات فوق رؤوس أهلها وأزالت أحياء بكاملها، استخدمت القنابل الفسفورية المحرمة دوليا، قطعت الكهرباء والمياه وقصفت المستشفيات وسيارات الإسعاف، للوصول إلى الهدف نفسه.. «التهجير القسري».
نزح عشرات الآلاف إلى الجنوب هربا من الموت المحقق دون أن يكون لديهم أدنى استعداد لمغادرة القطاع المنكوب إلى سيناء والتوطن فيها بذريعة الأمن والحماية!
تستهدف الدعوات الإسرائيلية الملحة والمكثفة لإخلاء شمال غزة أمرين رئيسيين:
الأول، اقتحام غزة بعملية عسكرية برية واسعة لاجتثاث حركة «حماس» وتصفية قياداتها.
حروب المدن بذاتها مكلفة.
بالنظر إلى أن قطاع غزة يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني على مساحة لا تتجاوز (365) كيلومترا مربعا فإن العواقب قد لا تطيقها آلة الحرب الإسرائيلية، التي نالتها خسائر فادحة في «طوفان الأقصى» وفقدت ثقتها في نفسها.
بصورة أو أخرى تطلب إسرائيل عملية تلفزيونية غير مكلفة لإعادة هيبة جيشها وقدرته على الردع بعد أن تكون قد أخلت شمال غزة ودمرت كل ما ينبض بالحياة فيها.
الثاني، يتجاوز الحساب العسكري المباشر إلى الاستهداف الاستراتيجي بإعادة طرح سيناريوهات «الوطن البديل» في ظروف وحسابات جديدة تبدو فيها الولايات المتحدة والتحالف الغربي وحلف «الناتو» الطرف الآخر المباشر في الصراع المحتدم على المصير الفلسطيني.
الوطن البديل طرح نفسه أولاً في «الخيار الأردني»، أو أن ينزح سكان الضفة الغربية إلى الجهة الأخرى من نهر الأردن حتى يتم الاستيلاء عليها بالكامل والتوسع الاستيطاني فيها دون ممانعة من الكتل السكانية الفلسطينية.
تراجع ذلك الخيار بأثر تطورين مهمين، أولهما، بروز الهوية الوطنية الفلسطينية المستقلة بعد حرب (1967)، التي وجدت تعبيرها السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.. وثانيهما، توقيع معاهدة وادي عربة، بين الأردن وإسرائيل عام (1994).
ثمة اعتقاد أردني راسخ، رغم تلك الاتفاقية، إنه إذا ما جرى توطين في سيناء بذريعة الإفلات من الموت فإن الخطوة التالية سوف تكون إجبار أهالي الضفة الغربية بمجازر مماثلة على الزحف إلى الضفة الأخرى.
إعادة إنتاج سيناريوهات وهواجس الوطن البديل تعبير صريح عن تقوض مبدأ «حل الدولتين»، وعدم استعداد الدولة العبرية لأي انسحابات من أية أراض عربية محتلة منذ عام 1967 على ما تنص القرارات والمرجعيات الدولية.
الوطن البديل طرح نفسه ثانياً على سيناء المصرية بدواعي التخلص من صداع غزة والمقاومة المتمركزة فيها.
رغم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي وقعت عام 1979، ظل ذلك المشروع مطروحاً في دوائر التفكير والتخطيط الإسرائيلية.
طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي كان رأيه قاطعاً إنه «لا أنا ولا من هو أتخن مني يقدر على التخلي عن سيناء».
كان ذلك الاستنتاج صحيحاً ودقيقاً، إنه المستحيل بكل اعتبار، أو بأي حساب.
»التهجير القسري» أخطر من الفصل العنصري «الأبارتهيد»، والتقتيل الجماعي في غزة أسوأ من غرف الغاز النازية في سنوات الحرب العالمية الثانية.
بتعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإن حصار غزة يشبه الحصار النازي لـلينينغراد في تلك السنوات.
هذه حقيقة ماثلة بقوة صور المأساة الفلسطينية وجثث الأطفال الملقاة أمام البيوت المهدمة في غزة.
التدليس على الحقيقة بدا مروعاً في الخطابين الرسمي والإعلامي الغربي، باستثناء أصوات معدودة.
عاد سيناريو «التهجير القسري» بدعم أمريكي عسكري واستخباراتي كامل هذه المرة.
لم يكن إرسال حاملتي الطائرات الأمريكيتين «جيرالد فورد» و«إيزنهاور» إلى شرق المتوسط ووصول بوارج بريطانية إلى نفس المكان محض تظاهرة عسكرية لدعم إسرائيل بقدر ما كان رسالة ردع لإيران وحزب الله وكل من يفكر في «استغلال الوضع الإسرائيلي المتدهور».
إنه دعم مطلق لإسرائيل وتصريح بالقتل والتهجير القسري.
في مستهل جولته بالمنطقة صرح أنتوني بلينكن: جئت لإسرائيل كيهودي لا كوزير خارجية الولايات المتحدة.
تماهت المواقف الأمريكية مع الرؤية الإسرائيلية للصراع، انتهكت كل القيم والحقائق، اختلقت روايات لا أساس لها ولا دليل عليها وثبت كذبها كتورط مقاتلي «حماس» في اغتصاب النساء وقطع رؤوس الأطفال وجرى وصفها بأنها «داعشية».
كان ذلك تدليساً على الحقيقة، فالصراع بين احتلال عنصري استيطاني ومقاومة مشروعة وفق القوانين الدولية.
بدت قضية «الرهائن» أولوية مطلقة على جدول أعمال جولة وزير الخارجية الأمريكي في المنطقة، ساعياً إلى إدانة «حماس» وتوفير دعم إقليمي للإفراج عنهم دون قيد أو شرط، أو تبادل مع أسرى فلسطينيين يقبعون في السجون الإسرائيلية منذ عشرات السنين.
ثم كان لافتاً دعوته إلى «توفير مناطق آمنة للفلسطينيين«.
كانت تلك الدعوة أقرب أن تكون إعادة صياغة لأوامر الجيش الإسرائيلي لأهالي غزة بالنزوح من الشمال إلى الجنوب طلباً للأمن والسلامة، رغم أن طائراتها استهدفت النازحين وقتلت وروعت أعداداً كبيرة منهم.
تبدت في أهدافه تبنيه لمشروع التهجير القسري إلى سيناء.
بتعبير إسرائيلي تردد على الشاشات: «لماذا لا تطلبون من مصر بدواعي الأخوة العربية والإسلامية فتح الحدود لاستضافة الفلسطينيين بصورة مؤقتة؟».
الأجدر بالحقيقة طرح سؤال: «لماذا لا يتوقف الأمريكيون عن دعم ارتكاب كل جرائم الحرب بحق الفلسطينيين العزل؟».
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن: سيناريو «التهجير القسري» إلى سيناء هل هو ممكن؟.. ثم هل يُفضي إلى أي استقرار أو أمن للدولة العبرية؟
الإجابة عن السؤال بشقيه: مستحيل تماماً.
لا المصريون ولا الفلسطينيون ولا العالم العربي بأسره ولا أي دولة مؤثرة في الإقليم كإيران وتركيا بوارد قبول ذلك السيناريو الكارثي.
غزة فلسطينية وجزء لا يتجزأ من فلسطين المحتلة، لا إخلاؤها ممكن ولا حذفها متاح.
«حماس» أكدت بوضوح لا يحتمل لبساً على لسان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية: «لا هجرة من غزة إلى مصر».
لا يوجد فلسطيني واحد مستعد أن يتقبل تكرار النكبة الأولى باستعارة أوطان بديلة.
وسيناء مصرية وسوف تظل كذلك، وقد بذل المصريون فواتير دم وتضحيات هائلة من أجل تحريرها والحفاظ عليها، هذه مسألة أمن قومي خارج أي نقاش لا يملك أحد التفريط فيها، أو المساومة عليها.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك