بينما دفعت الجرائم التي ترتكب في غزة والضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر ملف القضية الفلسطينية إلى بؤرة الاهتمامات العالمية، فقد تعددت الزوايا التي يتم منها تناول هذه الجرائم ما بين السياسية والحقوقية والاقتصادية، وما بين الرؤى الإقليمية ورؤى القوى الدولية والمنظمات الأممية.
غير أننا هنا سنتناول التبعات الاقتصادية لهذا العدوان، متمثلا في حالة الاختناق الاقتصادي للقطاع، فيما اتخذتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، ذريعة لشن حرب شاملة على القطاع، حشدت لها قوات الاحتياطي، وقدمت روايات إعلامية مزورة لما حدث، صدقتها الأوساط الغربية من دون روية، وحشدت بها تأييدًا ودعمًا غربيًا لتصرفاتها، التي باتت تهدد بانهيار القانون الدولي الإنساني، وفقًا لما ذهبت إليه «الأمم المتحدة»، وآخرها، «التهجير القسري»، الفوري لسكان غزة.
ووفقًا لتقرير «البنك الدولي»، «لا تزال القيود المفروضة على الحركة والتنقل التي تفرضها دولة الاحتلال الإسرائيلي، تخلق اقتصادا شبه مغلق في غزة، فيما بلغ معدل البطالة فيها 45.3%». ويعد القطاع الذي تبلغ مساحته نحو 365 كم2، «منطقة معزولة»، بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر له لما يقرب من 17 عاما. ومع ذلك، فإن تمتعه بموقع استراتيجي جعله «مطمعا» لإسرائيل، رغم انسحابها منه عام 2005، أكد على ذلك، تزايد عدد مستوطناتها فيما يُسمى غلاف غزة. ولعل ما حال دون إنفاذ هذا المطمع، عدد السكان الكبير البالغ (2.3 مليون نسمة)، الذين يعتمدون في معيشتهم على مساعدات وكالة «غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا).
ووفقًا لهذه الوكالة، يستفيد قرابة 1.140 مليون من اللاجئين الفلسطينيين في القطاع من السلة الغذائية التي تقدمها المؤسسة الأممية، بنسبة تصل إلى 80% من اللاجئين في غزة، وتقدر بـ66% من إجمالي عدد سكان القطاع، في حين يعيش نحو 83% من السكان تحت خط الفقر؛ نتيجة تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية (متوسط دخل الفرد طبقًا للبنك الدولي 1.7 دولار يوميًا، وهو دون خط الفقر الدولي البالغ 2.2 دولار يوميًا).
وفيما غدت «الأونروا»، شريان حياة للاجئين الفلسطينيين في غزة؛ فقد حذر المفوض العام للوكالة عن توقفها في شهر سبتمبر2023، موضحا أنها بحاجة إلى 300 مليون دولار؛ لمواصلة عملها حتى نهاية العام. وقبل ذلك في مايو، قرر برنامج الغذاء العالمي تعليق مساعداته لآلاف الأسر الفلسطينية، اعتبارًا من يونيو، بسبب نقص التمويل، وأضاف بيانه أنه يدرك صعوبة هذا القرار على الأسر، التي تعتمد بصورة كبيرة على المساعدات الغذائية، ويتجاوز عدد أفرادها أكثر من 200 ألف شخص.
وقد فاقم الأوضاع الاقتصادية في «غزة»، اعتبار الجيش الإسرائيلي -منذ انسحابه منها- القطاع «مرمى نيران»، كلما احتاج إلى تدريب، يقوم بشن حرب عليها، فعل ذلك في أعوام 2008، و2014، و2021، إضافة إلى قيام المتطرفين الإسرائيليين -وفقًا لـCNN- بعمليات اقتحام متكررة للمسجد الأقصى تحت حماية الشرطة الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، كانت الحرب على غزة عام 2014، إثر مظاهرات فلسطينية في الأقصى ومناطق عرب 48، عقب خطف وتعذيب وحرق مستوطنين للطفل الفلسطيني «محمد أبو خضير»، وأسفرت عن مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، وإصابة أكثر من عشرة آلاف. وعلقت «الأمم المتحدة» حينها بأن 89 ألف منزل قد دُمر في القطاع، جراء الهجمات الإسرائيلية، وقدرت كلفة إعادة الإعمار ما بين 4-6 مليارات دولار.
وفي2021، حدثت الاستفزازات الإسرائيلية ضد المصلين في المسجد الأقصى، وتم الإخلاء القسري لسكان حي الشيخ جراح بمدينة القدس، وما إن أطلقت الفصائل الفلسطينية بضعة صواريخ باتجاه البلدات الإسرائيلية كرد فعل؛ حتى قامت إسرائيل بشن هجوم عسكري واسع النطاق على قطاع غزة، استمر 11 يوما، نتج عنه مقتل أكثر من مائتي فلسطيني، وإصابة أكثر من 1600، وتدمير 1500 منزل بشكل كامل.
وطبقًا لـ«وزارة الأشغال الفلسطينية»، فإن هذه الحرب كلفت القطاع، نحو 497 مليون دولار، فيما أدت حروب إسرائيل على غزة منذ عام 2008، حتى2021 إلى دمار واسع، ما جعلها تحتاج على الأقل إلى مليار دولار لإعادة بناء المباني المهدمة، وملياري دولار لإعادة الحياة لوضعها الذي كانت عليه قبل الهجمات، في حين بلغ تقدير «الأمم المتحدة»، لحجم الدمار في غزة؛ بسبب الحرب في ذات الفترة بأكثر من 5 مليارات دولار، وكانت القطاعات الأكثر تضررًا، هي البنية التحتية للمياه، والكهرباء، والصناعة، والزراعة.
وتشير مؤسسة «فريدرتش إيبرت» الألمانية، إلى أنه «نتيجة الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة في2021، بلغت نسبة الانخفاض في النشاط الاقتصادي لمؤسسات الصناعة 94%، والإنشاءات 94%، والتجارة الداخلية 93%، والخدمات 94%، والنقل والتخزين 90%، والاتصالات 92%، والمالية والتأمين 100%، حيث استهدفت هجمات الاحتلال الإسرائيلي المنشآت العاملة، ملحقة خسائر مالية كبيرة بها، وصلت بصورة أولية إلى نحو 300 مليون دولار، إلى جانب صعوبة نهوض العديد من هذه المنشآت بسبب الدمار الكامل الذي حل بها.
وعليه، أدى هذا الاستهداف إلى تدمير ما تبقى من اقتصاد غزة، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر في القطاع الخاص، وزيادة الاختناق الاقتصادي لإجمالي السكان، فيما لم تشكل هذه المؤسسات الاقتصادية أي تهديد للاحتلال، وجاء تدميرها في سياق سياسات إسرائيلية ممنهجة في إطار تشديد الحصار. ومن بين المنشآت التي جرى تدميرها؛ منشآت الرعاية الصحية، فضلاً عن محطات دواجن وماشية وأراضي زراعية، من «بيت لاهيا»، شمالاً إلى «خان يونس» جنوبًا.
ونتيجة لهذه الأوضاع، تراجع نمو اقتصاد غزة المنهك بأكثر من 12% في العام الفائت. وبحسب «البنك الدولي»، فإنه إذا كان للقطاع الخاص أن ينشط، ويحقق النمو المستدام المطلوب، إلا أن القيود التي تفرضها إسرائيل لا تزال تقف عقبة أمام الاستثمارات المحتملة، حيث لا يزال الدخول إلى غزة خاضعًا لقيود شديدة.
ويقف عاملان يحددان معدلات النمو في القطاع؛ هما «مستوى تدفق المعونات»، و«درجة القيود المفروضة على حركة التجارة». ولم يكن النشاط الاقتصادي هو فقط الذي تأثر جراء الحروب الإسرائيلية المتعاقبة، فقد طال التأثير البنية التحتية للمياه، والصرف الصحي، والطاقة، والتعليم، والصحة، والإسكان؛ ما عمق سوء الأحوال المعيشية، وتردي الأوضاع الإنسانية، فيما أحدث حالة من اليأس العام والإحباط، في ضوء انسداد الأفق السياسي، وتدهور الاهتمام العالمي عمومًا بالقضية الفلسطينية، حتى تذيلت القضايا العالمية، وهو ما أتاح لإسرائيل أن تفعل بالفلسطينيين ما يحلو لها.
ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة في غزة، حظرت إسرائيل في سبتمبر2023، صادرات القطاع، سواء للضفة الغربية أو للخارج، بإغلاق «معبر كرم أبو سالم»، التجاري. فيما حذر «الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية»، في غزة من انعكاسات كارثية على الاقتصاد الفلسطيني نتيجة هذا القرار، الذي كان بمثابة تصعيد لسياسة الحصار الاقتصادي المتواصل على القطاع، المنهك اقتصاديًا، محذرًا من زيادة البطالة والفقر؛ بسبب القرار الجائر، الذي يهدد بتوقف العديد من المنشآت الصناعية، والزراعية عن العمل.
واستمرارًا لأسلوبها الممنهج، واصلت «إسرائيل»، في حربها الحالية على غزة، قصف مبانٍ رئيسية، وطالت الضربات الجوية مستشفيات عدة، بعضها خرج عن الخدمة، فضلاً عن معبر رفح البري، وغرقت غزة في ظلام دامس، بعد توقف محطة الكهرباء الوحيدة عن العمل، كما تضررت البنية التحتية بشكل واسع، بل إن القصف الإسرائيلي طال مواقع كانت إسرائيل تعتبرها آمنة لنزوح سكان غزة.
وفي 9 أكتوبر، أعلنت فرض حصار كامل على قطاع غزة، وحظر دخول الغذاء، والوقود، والكهرباء، وإمدادات الماء. ويؤثر هذا القرار بنقص حاد في مياه الشرب لـ690 ألف شخص، يعتمدون على إمدادات المياه من إسرائيل، فيما ألحقت غاراتها أضرارًا بـ7 محطات، كانت توفر خدمات المياه، والصرف الصحي، لأكثر من مليون شخص. وفي الوقت الحالي، تتراكم مياه الصرف الصحي، والنفايات الصلبة في الشوارع؛ ما يشكل «خطرًا صحيًا شديدًا»، على السكان.
على العموم، في الوقت الذي لا تبالي فيه «إسرائيل»، بالخسائر الاقتصادية التي تلحقها، نتيجة إقدامها على هذه الحرب الشاملة ضد قطاع غزة، بدعم أمريكي وغربي لها، تتفاقم خسائر الاقتصاد الفلسطيني، سواء في غزة، أو الضفة الغربية، وكلما استمرت الحرب، وتوسعت زاد نزيف الاقتصاد الفلسطيني، وإلحاق الضرر بكل قطاعاته.
وعليه، فإن إسرائيل بدون أي عتاب من الأمم المتحدة، ومن دول تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، تضرب بعرض الحائط كل المواثيق الدولية، وتعلن أن شريعة الغاب وقانون القوة، هما فقط عنوان ممارستها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك