لعب التخطيط الاستراتيجي دورًا مهما عبر التاريخ، وقد تشكلت مفاهيمه وتطورت في ساحات المعارك والصراعات التي نشأت بين الأمم، وكان عاملًا حاسمًا في نهضتها وبلوغها لأهدافها، ذلك أن الخطط التي رسمت مسار الحروب والنزاعات شهدت معها تطور التفكير الاستراتيجي الذي ساهم في حسم هذه الصراعات لمصلحة من يمتلك مفاتيح وأسرار التفكير الاستراتيجي.
وتعود جذور مصطلح «الاستراتيجية» إلى العسكرية وتحديدًا إلى عصر قدامى الإغريق في أثينا، حيث كان مصطلح «ستراتيجوس» بالمفرد و«ستراتيجوي» في حالة الجمع، يرمز لقائد الجيش، وتوجد عديد من الشواهد التي تدل على أن المصطلح كان شائعًا منذ ما لا يقل عن القرن السادس قبل الميلاد، وكانت تلك الرتبة العسكرية تجمع بين العمل السياسي والعسكري، أي إن صاحبها له الحق في الحصول على منصبٍ سياسيٍ كحاكمٍ عسكري، ومن أبرز الأمثلة على ذلك بيريكليس من أثينا الذي جمع بين السياسة والعسكرية.
واليوم يُعرف الخبراء ومن بينهم الأستاذ الدكتور ستانلي كي. ريدجلي من جامعة دريكسل مصطلح «الاستراتيجية» على أنه «طريقةٌ أو خطةٌ نُصممها لتحقيق المستقبل المنشود مثل الوصول إلى هدفٍ بعينه أو حل مشكلةٍ ما، حيث تقوم بتقييم الموارد اللازمة ومن ثم تخصيصها للاستخدام الأمثل والأكثر فعالية وكفاءة، بالإضافة إلى توقع ردة فعل المنافسين»، كما عرفها أيضًا على أنها «فن التعامل مع بيئةٍ مُتغيرةٍ باستمرار، سواءً من خلال الاستجابة لتلك البيئة لتحقيق أهدافنا أو محاولة تغيير تلك البيئة لمصلحتنا حيثما أمكن ذلك».
وتعود جذور وأساسيات علم الاستراتيجية للعسكرية، فقد غدا علم الاستراتيجية اليوم جزءًا لا يتجزأ من عملية صنع السياسة، والاقتصاد، والرياضة، وإدارة المؤسسات، وقد برع عبر مر الأزمنة في التاريخ القديم العديد من القادة العسكريين الذين أثبتوا جدارتهم في التخطيط الاستراتيجي العسكري مثل القائد القرطاجي هانيبال (247 – 181 ق.م)، الذي لقبه المؤرخ الأمريكي ثيودور ايرولت دودج بلقب «أبو الاستراتيجية»، حيث بزغ نجمه في عدة معارك عسكرية كان من أبرزها معركة كاناي عام 216 ق.م ضد الرومان.
كما لمع نجم القائد الروماني الشهير يوليوس قيصر (100 – 44 ق.م) في عدة مواقع عسكريةٍ خاصةً في الحرب الأهلية الرومانية التي دارت بينه وبين جاليونيوس بومينيوس، بالرغم من تفوق الأخير عليه في الجيش والعتاد، وغدت خططه المُتبعة أثناء ذلك النزاع تُدرس حتى يومنا هذا.
ومن أوائل من قام بتدوين أبرز التكتيكات المُتبعة في الحرب، الأمر الذي يعتبره البعض تأسيسًا لما عُرف بعلم أو فن التخطيط الاستراتيجي كان الصيني سون زو، والذي يُنسب إليه كتاب «فن الحرب»، ويعود إلى نحو القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن الكتاب لم يظهر حتى القرن الثالث قبل الميلاد، وهناك مجموعةٌ من المُتخصصين الذي شككوا في هوية سون زو وطرحوا عدة تساؤلاتٍ حوله، وبالرغم من ذلك فمن الأرجح أن سون زو شخصيةٌ حقيقيةٌ جابت الأرض، ويُعتقد أنه عمل في العسكرية لصالح حاكم منطقةٍ عُرفت حينها باسم «وو»، وتقع شرق الصين.
والكتاب سبق زمانه في المحتوى، ومن بين أشهر أقواله «إن الفن الأسمى للحرب هو إخضاع العدو دون قتال»، كما يُركز في الكتاب المنسوب إليه على مسألة استخدام ذكاء الفرد لهزيمة عدوه بدلًا من القوة، وبين أيضًا أن جميع الخطط الموضوعة مبدئية وقابلة للتغيير بحسب الظروف، فغدا علم الحرب فلسفةً ينهل من علمها من سعى إلى تطوير الذات واكتساب تفوقٍ على خصمه.
ننتقل إلى الحديث بعدها عن المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس الذي كانت له إسهاماتٌ أيضًا في وضع اللبنات الأولى لعلم التخطيط الاستراتيجي، فلم يكتفِ بسرد الأحداث من حوله وتدوينها فحسب بل سعى أيضًا إلى تحليلها، ويُعتبر أول من تبنى منهجًا علميًا للتحقيق في الوقائع التاريخية أثناء تناوله الحرب البلويونيزية التي كان شاهدًا عليها بين أثينا وسبارتا وحلفائهم في الثلث الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد (431 – 404 ق.م).
لم يأخذ ثيوسيديدس في كتاباته بالمُسلمات بل قام بتمحيص الروايات التاريخية، فُعرف على أنه أرسى قواعد «نظرية الواقعية السياسية»، ومن اللافت للانتباه تساؤله عن مدى فاعلية الاستراتيجيات العسكرية التي عُمل بها آنذاك، فهل يتم بدايةً الهجوم على عاصمة العدو بشكلٍ مباشرٍ أو الانقضاض على حلفائهم الضعاف ومن ثم التفرغ للنيل من الخصم الرئيس في المعركة؟
وتُعتبر معركة دليوم 424 ق.م بين قوات بيوتيا وأثنيا مولد الاستراتيجية العسكرية على أرض الواقع كما نعرفها اليوم بقيادة باغونداس حيث تعمد أثناء المعركة إبقاء قوات احتياط عند الهجوم من ثم استخدامها لحسم المعركة، والعبرة من المعركة من منطلق استراتيجي أنه «يُمكن للابتكارات المفاجئة أن تقلب مجرى أي صراعٍ مُتساوٍ».
وفي القرون الوسطى وتحديدًا فترة عصر النهضة بزغ نجم نيكولو مكيافيلي في تطوير أعمدة التخطيط الاستراتيجي، وقد وُلد مكيافيلي في مدينة فلورنسا التابعة لجمهورية فلورنسا عام 1469م، واشتغل مُنذ شبابه في السياسة، وتأثر بحال شبه الجزيرة الإيطالية التي مزقتها الحروب، وعُين مستشارًا وسكرتيرًا سياسيًا لجمهورية فلورنسا (1494 – 1512م)، وهو صاحب المقولة الشهيرة «الغاية تُبرر الوسيلة»، ولكن وعكس المتوقع ففي التخطيط الاستراتيجي فإن الكتب الأمثل له للقراءة هو كتابه المعنون «فن الحرب» عام 1521م، وليس كتاب «الأمير»، حيث طبق فيه عبارة «الغاية تُبرر الوسيلة» على ساحة المعركة.
وقد طرح مكيافيلي في كتاباته مُصطلحين وهما «فيرتو» و«فورتونا»، ويُمثلان العناصر الداخلية والخارجية في التفكير الاستراتيجي والتخطيط، فكلمة «فيرتو» تشمل عدة عناصر من الممكن تبنيها وصقلها مثل المرونة، والفردية، والقدرة، والطاقة، والبراعة السياسية، والقوة الحيوية؛ التي يُمكن لنا وصفها اليوم على أنها «الاستراتيجية المرنة»، ويستطيع أي فردٍ تطويرها وصقلها.
أما كلمة «فورتونا»، فيُقصد بها في هذا المقام القدرة في التغلب على الحظ العاثر وسرعة الاستجابة للتقلبات المفاجئة، وفي هذا المقام يقول مكيافيلي «لا يزال الحظ عاثرًا مُتقلبًا، لكن نصف إرادتنا على الأقل حرة، وإذا كنا جريئين فقد نتمكن من السيطرة عليه».
ومع دخول نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين على الساحة السياسية والعسكرية أدى إلى تحولاتٍ هائلةٍ ساهمت في تطور وتأسيس قواعد علم التخطيط الاستراتيجي كما نعرفها اليوم، خاصة على يد كلٍ من الألماني كارل فون كلاوزفيتز والسويسري أنطوان هنري جوميني، حيث تأثر الاثنان بسياسات واستراتيجية نابليون وكتبوا عنها، فيما أثرت أعمالهم في علم التخطيط الاستراتيجي، ويُكتب لجومنيني الفضل أنه أول من قام بتعريف المصطلحات الآتية مثل الاستراتيجية، والتكتيكات، واللوجستية، وقد ألف جوميني كتابًا أسماه هو أيضًا باسم «فن الحرب».
طُبقت أفكار جومنيني في عديد من الحروب وعلى رأسها الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865م)، والحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)، فيما قام فون كلاوزفيتز بتأليف كتابٍ أسماه «عن الحرب» عام 1842م.
وآمن فون كلاوزفيتز أن هناك ثلاثة أساسيات في الحروب على مُتخصصي علم الاستراتيجية أن يسعوا إلى تحقيق التوازن بينها، وهي العنف، والفرص، والغايات السياسية؛ وركز بشكلٍ مُحددٍ على مسألة اقتناص الفرص التي أسماها بالفرنسية «كو دوي»، وهي من أهم المصطلحات المتعلقة بالتخطيط الاستراتيجي، وتعني النظرة الثاقبة أو الفراسة أو دقة الملاحظة أو المَلكة واقتناص الفرص، والتي تُسهم في عملية بلوغ الهدف الأسمى.
وفي القرن العشرين الميلادي برز السير باسيل هنري ليدل هارت، وهو عسكريٌ بريطانيٌ سابق، عاصر الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)، ويُعتبر من بين أبرز مُنظري علم الاستراتيجية في القرن العشرين الميلادي، وهو صاحب فكرة «النهج غير المباشر»، نظرًا لما لمسه من خسائر هائلةٍ في الأرواح في الحروب التقليدية أي حروب الخنادق التي تميزت بها الحرب العالمية الأولى، وقد استفادت ألمانيا النازية من أطروحاته فطبقوا استراتيجية الحرب الخاطفة أي «البلتزجريغ» في الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م).
وقد قام اليوم مُتخصصون من كلية لانكشاير للأعمال بتصميم قاعدةٍ لأبرز العوامل التي تؤثر في عملية صياغة أية استراتيجيةٍ وتُعرف باسم «تامبيلز»، والعوامل التي تم رصدها هي كالآتي التكنولوجيا، والاقتصاد، والسوق، والسياسات، والقانون، والأخلاق المهنية، والمجتمع.
كما تم تطوير مصطلح «النية الاستراتيجية»، وهو مصطلحٌ أسسه كلٌ من الاقتصاديين الأستاذ الدكتور جاري هامل، والأستاذ الدكتور سي. كيه. براهالاد، وهو مصطلح مستخدم لوصف الخطط الطموحة أو الغرض الشامل أو الاتجاه المقصود اللازم للوصول إلى الرؤية التنظيمية، الأمر الذي يُسهم في التخطيط الواضح للمستقبل، ومثال على ذلك تطلع إحدى الشركات الخاصة بالمشروبات الغازية إلى أن يستطيع الجميع حول العالم الوصول إلى منتجاتها، ومثال آخر على ما تقدم هو إعلان الرئيس الأمريكي جي. أف. كندي (1917 – 1963م)، بأن الولايات المتحدة الأمريكية تطمح للوصول إلى القمر خلال عقدٍ من الزمان.
إن الاستراتيجية كعلمٍ وفن بدت كأداةٍ أساسيةٍ في حسم الصراعات التي شكلت خارطة العالم القديم وموازين القوة لذلك العالم، وقد تم تعميم الدروس المستفادة من تلك الانتصارات والإخفاقات اليوم في شتى التخصصات والمجالات حتى أضحت الاستراتيجية أداةً أساسيةً لنجاح أي فردٍ أو مؤسسة.
{ المدير التنفيذي لمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك