العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

صفحات من أوراق جدي.. البحث عن هدف

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٥ أكتوبر ٢٠٢٣ - 02:00

بدأت‭ ‬أقلب‭ ‬أوراق‭ ‬جدي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وثانية‭ ‬وثالثة،‭ ‬أبحث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬الملهمة‭ ‬التي‭ ‬تساعدني‭ ‬على‭ ‬المضي‭ ‬قدمًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرها،‭ ‬فوجدت‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭. ‬

يقول‭ ‬جدي‭:‬

‭(‬ميكوموتو‭) ‬رجل‭ ‬ياباني،‭ ‬قروي‭ ‬عادي‭ ‬جدًا،‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قرية‭ (‬توبا‭) ‬لأب‭ ‬فقير‭ ‬يبيع‭ ‬الأرز‭ ‬المسلوق‭. ‬ومنذ‭ ‬طفولته‭ ‬كان‭ ‬يساعد‭ ‬والده‭ ‬ويقضي‭ ‬نهاره‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬عربة‭ ‬صغيرة‭ ‬لبيع‭ ‬الأرز‭. ‬وفي‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬عمل‭ ‬بصيد‭ ‬الأسماك‭ ‬والغوص‭ ‬وصيد‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬وبيع‭ ‬الأصداف‭ ‬وكان‭ ‬يهوى‭ ‬جمع‭ ‬النادر‭ ‬منها‭.‬

كانت‭ ‬هناك‭ ‬فكرة‭ ‬تلعب‭ ‬في‭ ‬رأسه،‭ ‬وأسئلة‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬لها‭ ‬جوابًا،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬ذهب‭ (‬ميكوموتو‭) ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬من‭ ‬المشتغلين‭ ‬بعلم‭ ‬الأحياء‭ ‬المائية،‭ ‬وسأله‭: ‬لماذا‭ ‬يوجد‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬في‭ ‬القواقع؟‭ ‬لماذا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القواقع‭ ‬وبعضها‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬بها؟

أجابه‭ ‬صديقه‭ ‬بأن‭ ‬السبب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الطفيليات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬تتسلل‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬القوقعة‭ ‬وتجرح‭ ‬لحمها‭ ‬الناعم‭ ‬الضعيف،‭ ‬فتقوم‭ ‬القوقعة‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بأن‭ ‬تعزل‭ ‬هذا‭ ‬الجسم‭ ‬الغريب‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إفراز‭ ‬مادة‭ ‬جيرية‭ ‬شفافة‭ ‬تحاصر‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬تسلل‭ ‬إليها،‭ ‬وهذه‭ ‬المادة‭ ‬الجيرية‭ ‬الفسفورية‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬تكوينها‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬هي‭ ‬اللؤلؤ‭. ‬وهذه‭ ‬الطفيليات‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬حبة‭ ‬رمل‭ ‬أو‭ ‬قشرة‭ ‬سمكة‭ ‬أو‭ ‬حشرة‭ ‬صغيرة‭.‬

ومن‭ ‬يومها‭ ‬وفكرة‭ ‬إنتاج‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬بطريقة‭ ‬صناعية‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬مخيلة‭ (‬ميكوموتو‭).‬

قرر‭ (‬ميكوموتو‭) ‬أن‭ ‬يجرب،‭ ‬بأن‭ ‬يُدخل‭ ‬جسمًا‭ ‬غريبًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قوقعة‭ ‬يجدها،‭ ‬فجمع‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬القواقع،‭ ‬وفتحها‭ ‬برفق‭ ‬وأدخل‭ ‬فيها‭ ‬الأجسام‭ ‬الغريبة‭ ‬وانتظر‭ ‬عامين،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬فتحها‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬شيئًا‭ ‬فقد‭ ‬ماتت‭ ‬جميعًا‭.‬

وحاول‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وهبت‭ ‬العواصف،‭ ‬وماتت‭ ‬القواقع،‭ ‬وخسر‭ (‬ميكوموتو‭) ‬الشيء‭ ‬الكثير،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬ييأس‭.‬

وتعلم‭ ‬من‭ ‬تجاربه‭ ‬التي‭ ‬استغرقت‭ ‬15‭ ‬عامًا‭ ‬أن‭ ‬انخفاض‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬7‭ ‬درجات‭ ‬مئوية‭ ‬يقتل‭ ‬القواقع‭. ‬لذلك‭ ‬فإنه‭ ‬يجب‭ ‬نقل‭ ‬القواقع‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬البارد‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬الدافئ،‭ ‬وتعلم‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬وضع‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬القواقع‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬واحد‭ ‬يقتلها‭. ‬فهذه‭ ‬الكثرة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬جوع‭ ‬القواقع‭ ‬وذبولها،‭ ‬ولذلك‭ ‬حاول‭ (‬ميكوموتو‭) ‬في‭ ‬المرات‭ ‬التالية‭ ‬أن‭ ‬يتلافى‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأخطاء،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬القواقع‭ ‬تموت‭.‬

ولكن‭ ‬طوال‭ ‬الخمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬محاولاته‭ ‬حتى‭ ‬أصيب‭ ‬بفقر‭ ‬مدقع‭ ‬واتهمه‭ ‬الناس‭ ‬بالجنون،‭ ‬ودب‭ ‬فيه‭ ‬اليأس،‭ ‬فقرر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بيع‭ ‬الأرز‭ ‬المسلوق،‭ ‬ولكن‭ ‬زوجته‭ ‬رفضت‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬وقالت‭ ‬له‭: ‬سأدفع‭ ‬أنا‭ ‬العربة‭ ‬وتستمر‭ ‬أنت‭ ‬حتى‭ ‬يظهر‭ ‬اللؤلؤ‭.‬

فكر‭ (‬ميكوموتو‭) ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬مسك‭ ‬قوقعة‭ ‬بها‭ ‬لؤلؤة‭ ‬طبيعية،‭ ‬وأخذ‭ ‬بدراستها،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬مكان‭ ‬اللؤلؤة،‭ ‬وقام‭ ‬بعديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات،‭ ‬وبدراسة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القواقع‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وعرف‭ ‬تمامًا‭ ‬أين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬الجسم‭ ‬الغريب‭. ‬واكتشف‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬الجسم‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬غير‭ ‬مناسب،‭ ‬فقام‭ ‬بعملية‭ ‬زراعة‭ ‬الأجسام‭ ‬الغريبة‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬5000‭ ‬قوقعة‭ ‬جديدة‭.‬

وبعد‭ ‬سنتين،‭ ‬ذهبت‭ ‬زوجته‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬حيث‭ ‬أقفاص‭ ‬القواقع،‭ ‬وأمسكت‭ ‬قوقعة‭ ‬وفتحتها‭ ‬ثم‭ ‬صرخت‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬وجدت‭ ‬لؤلؤة‮»‬‭. ‬فكانت‭ ‬أول‭ ‬لؤلؤة‭ ‬مزروعة‭ ‬في‭ ‬اليابان،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬يوم‭ ‬28‭ ‬سبتمبر‭ ‬سنة‭ ‬1859‭.‬

واستطاع‭ (‬ميكوموتو‭) ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يتحكم‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬ولون‭ ‬حبات‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬وكذلك‭ ‬عددها‭ ‬في‭ ‬القوقعة‭ ‬الواحدة‭. ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬للتحكم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬ولكن‭ ‬رجلاً‭ ‬واحدًا‭ ‬فكر‭. ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬صمم‭ ‬ونجح‭. ‬فكان‭ ‬بذلك‭ ‬أول‭ ‬إنسان‭ ‬يزرع‭ ‬اللؤلؤ‭.‬

يقول‭ ‬جدي‭ ‬معقبًا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭:‬

هذه‭ ‬الصناعة‭ ‬التي‭ ‬بالفعل‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬وسببت‭ ‬له‭ ‬الكساد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬إلا‭ ‬إننا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحترم‭ ‬فكر‭ ‬هذا‭ ‬الرجل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬هدف‭ ‬وسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقه،‭ ‬وحققه‭ ‬بعد‭ ‬أعوام‭ ‬طوال‭.‬

لذلك‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬أيٍّ‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬هدف،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬المستحيلة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الجميع،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬مؤمن‭ ‬به‭.‬

وتنتهي‭ ‬الحكاية‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭. ‬

هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬ذكرتني‭ ‬بحكاية‭ ‬أخرى‭ ‬قرأتها‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين،‭ ‬ولكنها‭ ‬تراودني‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬وأخرى،‭ ‬وربما‭ ‬قصصتُها‭ ‬على‭ ‬المتدربين‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬تقول‭ ‬القصة‭:‬

سيدة‭ ‬عجوز‭ ‬كانت‭ ‬تركب‭ ‬القطار‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬المحطة‭ ‬قرب‭ ‬منزلها‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬محطة،‭ ‬ثم‭ ‬تعود،‭ ‬وأثناء‭ ‬ركوبها‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬تحرص‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المقعد‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬ذهابًا‭ ‬وإيابًا،‭ ‬وبين‭ ‬فينة‭ ‬وأخرى‭ ‬كانت‭ ‬تفتح‭ ‬النافذة‭ ‬وتخرج‭ ‬كيسًا‭ ‬من‭ ‬حقيبتها،‭ ‬وترمي‭ ‬أشياء‭ ‬من‭ ‬الكيس‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬يتكرر‭ ‬يوميًّا‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭.‬

وذات‭ ‬يوم‭ ‬سألها‭ ‬أحد‭ ‬المسافرين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يراقبها،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬تصنعين؟‮»‬

العجوز‭: ‬أنا‭ ‬أقذف‭ ‬بذور‭ ‬الورد‭.‬

الرجل‭: ‬لماذا؟

العجوز‭: ‬لأني‭ ‬أنظر‭ ‬من‭ ‬النافذة،‭ ‬ولا‭ ‬أرى‭ ‬سوى‭ ‬طريق‭ ‬موحش،‭ ‬ولدي‭ ‬طموح‭ ‬وهدف‭ ‬أن‭ ‬أسافر‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وأن‭ ‬أمتع‭ ‬نظري‭ ‬بألوان‭ ‬الزهور‭ ‬المختلفة‭.‬

كتم‭ ‬الرجل‭ ‬ضحكته،‭ ‬ولكنه‭ ‬قال‭: ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬ذلك،‭ ‬فكيف‭ ‬للزهور‭ ‬أن‭ ‬تنمو‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الطريق،‭ ‬فإني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬سيتطاير‭ ‬مع‭ ‬الهواء،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البذور‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬

فقالت‭ ‬العجوز‭: ‬صحيح،‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البذور‭ ‬سيضيع‭ ‬هباء،‭ ‬ولكن‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬أيضًا‭ ‬ستقع‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬المناسب،‭ ‬وأما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬فإنها‭ ‬حتمًا‭ ‬ستمطر‭ ‬يومًا‭ ‬ما،‭ ‬وسيأتي‭ ‬اليوم‭ ‬التي‭ ‬ستزدهر‭ ‬فيها‭ ‬تلك‭ ‬البذور‭ ‬وستنمو‭ ‬الأزهار‭ ‬وستشرق‭ ‬الألوان‭. ‬

فلم‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يقول‭ ‬الرجل،‭ ‬فواصلت‭ ‬العجوز‭ ‬وقالت‭: ‬أنا‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬لتحقيق‭ ‬هدفي‭ ‬وطموحي،‭ ‬والباقي‭ ‬على‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭.‬

نزل‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬القطار،‭ ‬وذهب‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬سبيله،‭ ‬وتمر‭ ‬عليه‭ ‬أيام‭ ‬وشهور،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬ولكنه‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬سافر‭ ‬وغادر‭ ‬المنطقة‭ ‬والقطار،‭ ‬ونسي‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭ ‬والقطار‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭.‬

وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬ركب‭ ‬نفس‭ ‬القطار،‭ ‬وعندما‭ ‬بدأ‭ ‬القطار‭ ‬يسير‭ ‬سمع‭ ‬فتاة‭ ‬صغيرة‭ ‬تقول‭ ‬لوالدها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬السعادة‭ ‬والنشوة‭: ‬‮«‬انظر‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المنظر‭ ‬الجميل،‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الزهور،‭ ‬إنها‭ ‬حقًا‭ ‬جميلة،‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬زرعها‭ ‬عند‭ ‬سكة‭ ‬القطار؟‮»‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬قفزت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬عقله‭ ‬صورة‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭ ‬وهي‭ ‬ترمي‭ ‬بالبذور‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬القطار،‭ ‬فقام‭ ‬ووقف،‭ ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬القطار‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬الزهور‭ ‬نمت،‭ ‬وتغير‭ ‬المنظر‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الطريق،‭ ‬وتعددت‭ ‬الألوان‮»‬‭. ‬فقام‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬وذهب‭ ‬لبائع‭ ‬التذاكر‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز،‭ ‬فأخبره‭ ‬أنها‭ ‬ماتت‭.‬

حزن‭ ‬عليها‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يعرفها،‭ ‬ولكنه‭ ‬وجد‭ ‬آثارها،‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬للفتاة‭ ‬الصغيرة‭: ‬‮«‬هي‭ ‬بالفعل‭ ‬لم‭ ‬تتمتع‭ ‬بالمنظر‭ ‬الجميل،‭ ‬ولكنها‭ ‬منحت‭ ‬هدية‭ ‬جميلة‭ ‬للناس‮»‬‭.‬

تنتهي‭ ‬الحكايات‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬ولكن‭ ‬القضية‭ ‬المهمة‭ ‬لم‭ ‬تنته،‭ ‬فقد‭ ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬المخترع‭ ‬الياباني‭ ‬والمرأة‭ ‬العجوز‭ ‬وعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬كان‭ ‬لديهم‭ ‬حلم،‭ ‬وهدف،‭ ‬وطموح‭ ‬فذهبوا‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تنفيذ‭ ‬ذلك‭ ‬الهدف‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬وفي‭ ‬دورة‭ ‬تدريبية‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الأهداف‭ ‬والتخطيط‭ ‬الشخصي‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تقدمت‭ ‬إليّ‭ ‬فتاة‭ ‬عشرينية‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وجلست‭ ‬أمامي‭ ‬وهي‭ ‬تبكي‭ ‬وتقول‭: ‬أنا‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬هدف،‭ ‬ماذا‭ ‬أفعل؟‭ ‬كيف‭ ‬أضع‭ ‬لنفسي‭ ‬هدفا‭.‬

وهذا‭ ‬أمر‭ ‬خطير،‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬للإنسان‭ ‬هدف،‭ ‬فهو‭ ‬يستيقظ‭ ‬ويذهب‭ ‬للعمل‭ ‬‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬عمل‭ ‬‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬ويتزوج‭ ‬وينجب،‭ ‬ويخرج‭ ‬مع‭ ‬أصحابه‭ ‬ويذهب‭ ‬إلى‭ ‬المقاهي‭ ‬والمجمعات‭ ‬التجارية،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬ما‭ ‬نفع‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬هدف؟

دعونا‭ ‬نسأل‭ ‬الجميع،‭ ‬من‭ ‬منا‭ ‬لديه‭ ‬هدف؟‭ ‬وهدف‭ ‬مكتوب‭ ‬على‭ ‬ورق،‭ ‬وهدف‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقه؟‭ ‬كم‭ ‬أنجزت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؟‭ ‬وكم‭ ‬باقي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬بعد؟

والهدف‭ ‬ببساطة‭ ‬ليس‭ ‬لغزًا،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقه،‭ ‬وهي‭ ‬أساس‭ ‬الحياة‭. ‬فمن‭ ‬منا‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬هدف‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬ويريد‭ ‬تحقيقه‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هدفنا‭ ‬الدراسة‭ ‬أو‭ ‬النجاح‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الاستحقاق،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

والهدف‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬قضية‭ ‬سامية،‭ ‬وهو‭ ‬الدينامو‭ ‬الذي‭ ‬يحرك‭ ‬الإنسان،‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬الدينامو‭ ‬فإن‭ ‬الإنسان‭ ‬يقف‭ ‬حيث‭ ‬هو،‭ ‬عقله‭ ‬يتبلد،‭ ‬وجسمه‭ ‬يتخشب،‭ ‬وعواطفه‭ ‬تتبلد،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬ويذهب‭.‬

والإسلام‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الأهداف،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الموضوعات،‭ ‬فقد‭ ‬حدد‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬للإنسان‭ ‬وبقية‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الذاريات‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬56‭ (‬وما‭ ‬خلقت‭ ‬الجن‭ ‬والإنس‭ ‬إلا‭ ‬ليعبدون‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬هدف،‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يسهم‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬تحديد‭ ‬الأهداف‭ ‬وكيفية‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭.‬

وكذلك‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يحدد‭ ‬للإنسان‭ ‬عديدا‭ ‬من‭ ‬الأهداف،‭ ‬فمثلاً‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬من‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬يبسط‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬رزقه‭ ‬وينسأ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أثره‭ ‬فليصل‭ ‬رحمه‭) ‬البخاري،‭ ‬وهذا‭ ‬هدف‭ ‬في‭ ‬صلة‭ ‬الرحم‭.‬

ولكن‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬لرسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬هدف،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الأنبياء‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬107‭ (‬وما‭ ‬أرسلناك‭ ‬إلا‭ ‬رحمة‭ ‬للعالمين‭)‬،‭ ‬فالهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬لرسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رحمة‭ ‬للعالمين،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭. ‬

وقد‭ ‬قال‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬هدفه‭: ‬‮«‬إنما‭ ‬بعثت‭ ‬لأتمم‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‮»‬،‭ ‬رواه‭ ‬أحمد‭.‬

نعم‭ ‬أيها‭ ‬السادة،‭ ‬ألقوا‭ ‬بذور‭ ‬الورود،‭ ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تتمتع‭ ‬بالزهور‭ ‬اليوم،‭ ‬ولكن‭ ‬حتمًا‭ ‬سيتمتع‭ ‬بها‭ ‬غيرك‭. ‬وحدد‭ ‬هدفك‭ ‬وربما‭ ‬يأتي‭ ‬حفيدك‭ ‬ليستمتع‭ ‬بذلك‭ ‬الهدف،‭ ‬فلا‭ ‬تبخل‭ ‬على‭ ‬حفيدك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا