كان القرن العشرون الفترة الأكثر وحشية في تاريخ البشرية، حيث عاش العرب، والعالم الثالث، جميع صنوف الاضطهاد والوحشية الاستعمارية، فكان أكثر الفترات الاستعمارية ظلمًا واضطهادًا لشعوب العالم الثالث، وكان ذروة الابتزاز والنهب الاستعماري لثرواتها؛ وأكثر فترات التاريخ ربحًا وإدرارًا للثروات على القارة الأوروبية، بل على الجزء الغربي من العالم، وبتلك الثروات المنهوبة بنى الأوروبيون حضارتهم الصناعية الكبرى، لتبقى للأزل ولا تغيب عنها الشمس.
على مدار القرن العشرين باعت أوروبا الاستعمارية، وخليفتها الأمريكية، والصهيونية، شعارات المدنية والتحضر على دول العالم الثالث بهدف توطين الاحتلال والاستعمار فيها؛ واستثمروا شعارات وادعاءات وردية لم تكن يوما واقعية أو ذات مصداقية، فلم يجنِ منها العالم فائدة مادية، أو قيمة إنسانية، في أي مجال إنساني أو معرفي، بقدر ما انعكست بالفائدة الكبرى على مصالح الغرب الاستعمارية في العالم.
وعلى مدار تاريخ الاستعمار الغربي عموما، لم تتطابق أفعال الأوروبيين الوحشية مع أقوالهم الوردية، فكان النهب والعبودية والعنصرية سلوكهم أينما حلّوا... شعارات الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير عن الرأي، ونزاهة وحياد الإعلام كانت، ومازالت، مجرد أوهام وأكاذيب غربية انطلت على شعوب العالم الثالث عمومًا، والعرب خصوصًا.
وبسذاجة شديدة آمنّا بتلك الشعارات الجميلة، وصدّقنا أن الإنسان الغربي هو الأكثر إنسانية وتحضرًا، لنكتشف سريعًا أننا كنا أمام خديعة كبرى، وإن الشعارات ما هي إلا أدوات تخدير لتمرير السياسات الاستعمارية، وفرض التبعية للنفوذ الغربي في الحرب الباردة... ومازال الأمر مستمرًا مع الصراع القائم اليوم حول التحولات الدولية الجديدة.
وهنا نستشهد بتصريح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي يؤكد أن أوروبا، من بين جميع قارات العالم، هي القارة الأكثر وحشية L'Europe, de tous les continents du monde est le continent le plus brutal https://youtu.be/JNhObi30Tho?si=XQ2rFVI- Zr6JcNeL (اليوتيوب لموقع أفريك ميديا Afrique Média، 3 يوليو/تموز 2023).
وبعد تاريخ طويل من الممارسات والسياسات الوحشية الغربية، وبعد زخم إعلامي منقطع النظير على مدار أكثر من قرن لمحو صورة أمم الغرب المتوحشة عن ذاكرة الأمم الأخرى، والتي تأبى أن تُمحى؛ وفي زمن لم يعد الغربي يبالي بحضور أو غياب صورته القبيحة والوحشية، ولشكله وضميره الحيواني الذي افترس العراق، وعاث فيه نهبًا وقتلا وتدميرا، وحوَّله إلى سجن كبير لتعذيب البشر وانتهاك إنسانية الإنسان؛
وقبل أن يسود نظام دولي جديد يخاف منه الغرب اليوم، لاعتقاده بأنه قد يكون أكثر إنسانية من النظام الدولي الغربي الذي ساد على الكون لأكثر من قرن؛
في ظل كل ذلك، عاد الغرب المتوحش، ووارثو تركته البشعة، ليثبتوا مرة أخرى أنهم مازالوا هم الأكثر وحشية في تاريخ البشرية.
عادوا ليصبوا وابل ذخائرهم النارية على شعب فلسطين المسجون في بقعة صغيرة من أرضه...
عادوا ليذَكِّروا العالم أن قوتهم الوحشية قادرة على تنفيذ خططهم دون اعتبار لأي قيمة إنسانية في هذا الكون...
عادوا بكامل وحشيتهم ولا إنسانيتهم، ليعيدوا إلى ذاكرة البشرية تلك الصورة الأشد قبحا لأوروبا وورثتها الصهاينة والأمريكيون الاستعماريون...
عادوا بكل أسلحة الدمار الشامل ليُرجِعوا إلى ذاكرة البشرية أن هذا العالم لن يعيش حياة إنسانية كريمة مادام هناك سيادة لقوة غربية ظالمة، بشعة، تعتاش على مص دماء الشعوب الضعيفة...
عادوا معا كقوة واحدة، أوروبية صهيونية أمريكية، لقتل شعب أعزل، بعد فشلهم الصارخ في أوكرانيا، وبعد أن كشف الروس عن عورتهم وضعفهم أمام القوة...
عادوا لاستعراض عضلاتهم على شعب فلسطين المحتل...
وعادوا ليهددوا دولا عربية تنازلت منذ زمن عن قوتها واستسلمت إلى الإذلال الغربي، ليرعبوهم ويحيّدوا دورهم في معركة قتل الفلسطينيين...
عادوا مع قوة النار و«الصدمة والترهيب» بعد أن رتبوا شؤون العرب؛ وجعلوهم مجرد متفرجين...
عذراً يا شعبنا العربي في فلسطين؛ عذراً يا أطفالنا الشهداء في غزة... فلقد ضاعت الكلمات منا أمام هول المشهد...
عذراً يا شعب فلسطين المقدام؛ نحن فقدنا القدرة حتى على نظم الشعر، وقد منعتنا الديمقراطية الغربية من مجرد التعبير عن حبنا لكم، فتركنا عواطفنا تنمو وتموت في داخلنا لأننا جبناء...
عذرًا يا أطفال غزة، أنتم ترعبون عدوكم، وهو يرعبنا، كي لا نحبكم، ولا نتعاطف معكم، ليمطروكم بقنابلهم النارية فوق رؤوسكم... فنحن مجرد متفرجين، ممنوعون من مدكم بمرضعة حليب، أو قطعة حلوى...
عذرًا يا فلسطين، لقد كشفت أمامنا زيف الموقف العربي، فما عادت الشعارات لها قيمة، ولكننا واثقون بأنكم أنتم، ولا أحد سواكم، سيحرر أرض فلسطين، التي رويتموها بدمائكم، وذابت في ترابها أجساد أبنائكم وأحبائكم...
وعذرا يا أمتي، فإننا لم نعد نصلح أن نكون بشرًا بمشاعرنا أمام ما يحدث اليوم لشعب غزة؛ إنه زمن البؤس العربي، وقمة الظلم العالمي...
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك