مرت ستة أيام على عملية «طوفان الأقصى» وما زالت إسرائيل في حالة صدمة، بالكاد ردت حكومتها بإعلان الحرب والقصف الهمجي على غزة، وفي الوقت الذي تواصل فيه إحصاء الخسائر البشرية، وتواصل حصد أرواح الفلسطينيين إن كان في غزة أو الضفة، بتدمير الأبراج السكنية، والإغارة على المنازل المدنية بطائراتها الحربية، وارتكاب المجازر كما وقع مع عائلات شبات وشملخ وحرارة، فيما يواصل إعلامها التعبير برد الفعل على عملية المقاومة الفلسطينية بالقول إنها «غير مسبوقة»، أو إنها الأعنف منذ خمسين سنة أو أكثر، كذلك في تفسير كيفية وقوع العملية إن كان بالتذكير بما وقعت فيه إسرائيل من غفلة في يوم الغفران عام 73، أو ما ظهر فيها من فشل أمني، عسكري واستخباراتي.
محلل الشؤون السياسية في القناة 13 الإسرائيلية آري شافيط، وصف ما وقع بأنه كارثة قومية، وبأنه اليوم الأصعب منذ عام 1948، أي منذ تأسيس الدولة، أما المعلق العسكري في موقع «مكور ريشون» نوعم أمير فقد قال إن إسرائيل كانت حتى يوم السبت الماضي واحدة من أكبر القوى الاستخبارية في العالم، أي إن عملية طوفان الأقصى، كانت بسبب الغفلة الأمنية والفشل الاستخباراتي، وبالطبع قارن المعلق، كما كثير من المراقبين الإعلاميين والمحللين السياسيين، ما حدث بما سبق وحدث قبل خمسين عاماً، أي يوم «كيبور» أو حرب أكتوبر عام 73 حين باغت المصريون والسوريون الجيش الإسرائيلي بتلك الحرب وأوقعوا به الخسائر البشرية الكبيرة، ومن ثم الهزيمة العسكرية.
بتقديرنا، فإن كل ما يقال هذه الأيام عن كون عملية «طوفان الأقصى» غير مسبوقة، وكل القراءات ذات الطابع العسكري، هي صحيحة، فهي حقائق، نظراً إلى أنها ألحقت بإسرائيل خسائر بشرية لم تقع في صفوفها خلال كل الحروب السابقة، كما أنها خالفت ما اعتادت عليه إسرائيل من الإمساك بزمام المبادرة العسكرية، حيث كانت دائماً هي من تطلق الحرب، وتحدد توقيتها وبالتالي زمانها ومكانها، حتى تربحها، والأهم أنها كانت بذلك تجري في أرض الخصم، أما هذه المرة، فإن حماس هي من بادرت، بعد وقت طويل أوهمت فيه إسرائيل - ربما كما فعل من قبل الرئيس المصري أنور السادات – بأنها قد حيدت جبهة غزة، وأنها نقلت ميدان المواجهة إلى الضفة فقط.
باختصار التفسيرات كثيرة ويطول شرحها، لكن قبل كل هذا لا بد من تفسير تساؤل واحد، أو الإجابة عن سؤال وحيد، وهو لماذا غفلت إسرائيل، وليس كيف غفلت، وهل أن سبب ما حدث هو تكتيكي، تقني، استخباراتي، ينحصر في عنصر المباغتة والمفاجأة فقط؟
لقد قالت إسرائيل هذا عندما فاجأتها حرب أكتوبر عام 73، وحين فوجئت بانتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987، وما قبلهما حين فوجئت ببسالة الفدائيين الفلسطينيين في يوم معركة الكرامة في 21/3/1968، أي إنها تقدم هذا المبرر حين تخسر الحرب، مع أن حرب الكرامة كانت بمبادرة من موشيه ديان وزير جيشها في ذلك الوقت، وكانت على الأرض العربية، أي ليس في حقلها الخاص، وكان في غفلة، أو حلم صحو، حيث كان يظن بأنه ذاهب في نزهة، لدرجة أنه اصطحب معه المصورين والإعلاميين، كما لو كان يصور فيلماً سينمائياً؟!
لقد أظهرت «طوفان الأقصى» جوانب عسكرية عديدة، وهي بكل المعاني لحظة فاصلة، أقل ما يمكن وصفها به، بأنها كانت ضربة قاسية وقعت على رأس إسرائيل، فهل تكفي تلك الضربة لتصحو إسرائيل من غفلتها الأزلية، المتمثلة بمواصلة التقدير بأنه يمكنها أن تحتفظ بالأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، ومواصلة الطموح بدولة عظمى إقليمياً، باحتلال أراضٍ أخرى، أو على الأقل بالتوسع بالنفوذ والسيطرة، وذلك بتفريغ دول المنطقة من عوامل القوة الذاتية، العسكرية أولاً، وهذا واضح تماماً، من خلال رفضها الاستخدام المدني للطاقة النووية لكل دول الشرق الأوسط، بما فيها السعودية، ومصر وتركيا بالطبع، وليس إيران فقط، ثم الاقتصادية ثانياً، فضلاً عن قطع الطريق على الدولة الفلسطينية المستقلة، والاستمرار في منع تعافي الدولة السورية، كذلك تدمير اقتصاد لبنان.
إن جبروت القوة العسكرية، وإسرائيل منذ نشأتها وهي تعيش على هذا العامل، بسبب من حماية الغرب الإمبريالي، والاستعماري من قبله لها، ولم تفكر يوماً بالعيش في الشرق الأوسط وفق منطق حسن الجوار، وحقيقة الأمر أن الدول الاستعمارية تفكر هكذا، أي إن قادة تلك الدول يجدون في لحظة ما أنفسهم في غفلة، وكأنهم كانوا يعيشون «أحلام اليقظة»، فبعد أن احتل أدولف هتلر فرنسا، وحاصر بريطانيا، واحتل كل شرق أوروبا، واصل زحفه إلى روسيا، ظاناً أنه بإمكانه أن يحتل العالم كله، وأن يحكم الكرة الأرضية بالقوة العسكرية، إلى أنه هزم في نهاية المطاف في روسيا، ورغم أن الروس خسروا في تلك الحرب ما يقارب الـ 25 مليون ضحية، أو أكثر من 40% من مجمل ما خسره العالم في تلك الحرب من أرواح، إلا أنه تم كنس الاحتلال الألماني من أرض روسيا ومن أوروبا الشرقية وفتح الباب واسعاً لانهيار النازية ودخول برلين من قبل القوات السوفيتية وقوات الحلفاء.
ورغم أن «طوفان الأقصى» كان اسمها مكتوباً على الجدار السياسي، ذلك أن إسرائيل نفسها ومنذ نحو العامين وهي تتحدث عن تآكل قوتها في الردع الأمني، ورغم تقديراتها بأنها تواجه خمس جبهات مختلفة، إلا أنها ظلت تعتقد بأن زمام المبادرة بيدها، وأنها مطلقة السراح وتتمتع بحرية الحركة، وأن عدوها عليه أن يظل قابعاً جوار الحائط يتلقى الضربات بصمت، ولم تتوقف إسرائيل يوماً عن ممارسة القتل الرسمي والإرهابي بحق الفلسطينيين.
احتلال إسرائيلي متواصل منذ أكثر من 75 سنة، وقتل يومي واضطهاد مريع لشعب محتل، وحتى أن الأسبوع الأخير الذي سبق «طوفان الأقصى» كان استفزازياً جداً من حيث اقتحامات الأقصى من قبل المستوطنين، وصحيح أن عملية حماس لم تكن رد فعل لحظياً أو تلقائياً، على تلك الاقتحامات، إلا أن مرجل الغضب يغلي منذ سنوات طويلة، وإسرائيل تعمدت أن تظل غافلة عن الطريق الذي يجنبها ويجنب جيرانها هذا الطريق الدموي، ونعني به طريق السلام، الذي له بوابة وحيدة إجبارية هي بوابة إنهاء الاحتلال، ومن ثم أن تعيش إسرائيل بحسن جوار دون تطلعات توسعية أو بأحلام في السيطرة.
وصحيح أن خسائر إسرائيل بلغت أعداداً كبيرة: أكثر من 1000 قتيل، أكثر من 2500 جريح، نحو مائتي أسير حرب، لكن بالمقابل، وهي ما زالت تعلن أنها في حالة حرب، لكنها لم تشنها بعد، حيث قال نتنياهو إن إسرائيل تواصل عملية استعادة المواقع الحدودية التي اقتحمتها المقاومة، ومن ثم الرد العسكري، الذي توعد فيه أن يدمر قوتَي حماس والجهاد العسكريتين، رغم ذلك فقد أوقعت حتى الآن أكثر من 1100 شهيد وما يقارب الـ 3500 جريح، ودمرت أبراجاً سكينة بالكامل، ومن ضمن الضحايا عائلات بكاملها.
وهنا تظهر ردود الفعل الغربية بالتحديد الأمريكية على لسان أنتوني بلينكن والمستشار الألماني، جذرها العنصري، فهي لا تساوي بين أرواح الفلسطينيين والإسرائيليين، مع أن الضحايا الفلسطينيين جلهم مدنيون وكثير منهم أطفال، وهم يموتون على يد جيش دولة إسرائيل الرسمي، وهكذا تظل إسرائيل في غفلة جبروت القوة، وفي ظل الاحتلال، أسيرة حسابات أمريكية انتخابية، وجذراً سياسياً عنصرياً، وأسيرة تطرف داخلي، وقوة فصل عنصري، بقدر ما تصر على الاحتفاظ بالاحتلال بقدر ما تغامر بمصير الدولة، وها هو الفصل العنصري يصل لأنف إسرائيل في تظاهرات «كابلان»، ولا خيار أمامها: فإما إنهاء الاحتلال، وإما تفكك وربما زوال الدولة.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك