في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، نتذكر كيف سجل الجيشان المصري والسوري أروع آيات البطولة، وأعادا إلى الأمة العربية الاعتبار، خاصة بعد هزيمة عام 1967.
ولست هنا بصدد الحديث عن إجهاض السياسة لهذه الإنجازات والبطولات العسكرية. ولكن عادت بي الذاكرة إلى يوم زيارتنا لخط بارليف الذي أصبح اسمه مقترنا بهذه الحرب.
ففي يوليو من عام 1974، كان هناك دورة للمجلس الوطني الفلسطيني انعقدت في القاهرة. وقد رتب الإخوة المصريون للمشاركين في المجلس زيارة إلى قناة السويس، وبالتحديد شرقها، للاطلاع من كثب ومشاهدة أجزاء ومواقع مما كان يعرف بـ«خط بارليف». وكان لي شرف أن أكون واحداً ممن شاركوا بتلك الزيارة.
خط بارليف هو خط التحصينات العسكرية المنيعة جداً التي بناها جيش دولة الاحتلال شرق قناة السويس، ونشرت الأساطير حول قوته ومناعته واستحالة اختراقه.
لكن قوات الجيش المصري العظيم نجحت خلال حرب أكتوبر 1973 في اختراقه وتدميره وهزيمة القوات المعادية التي كانت متمركزة فيه.
عبرنا بالقوارب من غرب القنال إلى شرقها، حيث الخط المذكور. تجولنا بالحد الأقصى الممكن في الخط ومواقعه وتحصيناته.
وكان معنا من المرافقين العسكريين المصريين من يشرح ويفسر على الأرض، وفي المواقع، ويروي عن تفاصيل الإعجاز الذي تحقق والبطولات التي تصل حد الإعجاز.
كانت الدهشة التي تقارب صعوبة التصديق، مقرونة بالانبهار والفخر هي ما سيطر على مشاعر كل واحد منا.
كانت التحصينات المقامة من قبل قوات جيش الاحتلال قوية ومنيعة، وكانت مدعمة ببلوكات من الأحجار الصخرية متوسطة الحجم، والمجموعة مع بعضها في إطارات من الشبك السلكي على شكل بلوكات متفاوتة المقاسات الكبيرة نسبياً، وبحيث تتناسب مع مساحة وحجم الموقع المحصّن.
ومعروف علميا وهندسيا أن الحجر الصخري (حجر جيري) له خاصية الامتصاص العالي للصدمات والاهتزازات، لذلك مثلاً، نراه مفروشاً بأحجام صغيرة نسبياً بين قضبان سكك حديد القطارات.
أما الأساسي من تلك التحصينات ومراكز القيادة في الخط، فكان محفوراً عميقاً في الأرض ذات الطبيعة الرملية.
يضاف إلى مناعة ذلك الخط وتحصيناته، أنه يقوم على ما يشبه التلة الرملية العالية التي تبدأ من سطح القناة صعوداً بما يشكل ساتراً يجعل مجرد الصعود عليها والوصول إلى الخط ناهيك عن أن مداهمته واقتحامه عسكرياً أمر يقترب من الاستحالة.
كما تضاف إلى تلك المناعة تمديدات أنابيب الغاز الموصلة بين المواقع الإسرائيلية شرق القناة إلى ما تحت سطح مياهها، والتي يتم التحكم في فتح مخارجها هناك من قبل العدو لتخرج عند الحاجة غازاً يتم إشعاله بطريقة سهلة جداً، فتخرج نار ملتهبة تنتشر على سطح القناة مانعة أي عبور لها.
الصورة الإجمالية التي تنطبع في ذهن أي زائر لخط بارليف، أن من روّج لاستحالة اختراقه لم يكن مبالغا أو مخطئا.
ومع ذلك، فقد نجحت قدرة العلم والتخطيط والتدريب والتمويه لدى العسكرية المصرية، مجبولة مع الوطنية المصرية العريقة، ومع بطولة العسكري المصري وقدرته واستعداده، نجحت في تحقيق الإنجاز العظيم الذي يقترب من الإعجاز.
فقد اقتحمت الخط وقضت عليه، وهزمت قوات العدو التي كانت مرابضة فيه وأجبرتها على الفرار من مواقعها.
بعد الزيارة التي امتدت بضع ساعات عدنا إلى الضفة الغربية للقناة، والتقينا هناك مع الفريق أحمد بدوي في مقر قيادته.
والفريق بدوي كان أحد كبار القادة العسكريين المصريين، وكان قائداً لأحد الجيوش المقتحمة للقنال والمشتبكة بالقتال في تلك الحرب.
وقد أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع، ثم استشهد في حادث تحطم طائرة عسكرية مع بعض مرافقيه، عندما كان يقوم بجولة على بعض المواقع بعد حرب أكتوبر بسنوات.
الفريق بدوي شرح لنا الكثير من تفاصيل الحرب، بالذات ما يتعلق منها بالتغلب على الساتر الرملي وتوصيلات الغاز وعملية التمويه الواسعة، وحائط الصواريخ والضربة الجوية الأولى، وغيرها.
وأفاض في الحديث عن بطولات العسكري المصري في أرض المعركة عبر مشاهدات ونماذج حسية وحيّة.
وشرح ببعض التفصيل كيف نجحت القوات التي كانت تحت قيادته في أَسر كتيبة إسرائيلية بكامل أفرادها وعدتها وعتادها، وعلى رأسها قائدها الذي كان برتبة جنرال.
وكانت تلك واحدة من الانتصارات النوعية التي تناولتها وسائل الإعلام بكثرة واستفاضة.
وشرح لنا التكتيك الحربي الذي اتبعه في تلك العملية: (عندما كانت تلك الكتيبة بجنودها وتجهيزاتها بما فيها الدبابات تتقدم باتجاه موقع قواته، قرر أن يفتح لها ذراعَيه ليغريها بالتقدم والدخول باتجاه صدره. وحين اكتمل دخولها كلها، أطبق بقواته عليها بذراعَيه وأَسرها بكاملها).
هذه العودة بالذاكرة تؤكد حقيقة لا شك فيها أننا أمة لا تنقصها القدرات والإمكانيات والكفاءات العلمية أو العسكرية، ولا الإقدام والاستعداد للتضحية من أجل كرامة الوطن والأمة، فيما لو ترافق معها القرار السياسي الصائب.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك