الإسلام لا يرد كل وارد من الآخر لذاته، بل لما يؤول إليه من فساد أو إفساد، فإذا ما تأكد لديه فساده وعدم صلاحيته، بل ومعارضته للنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة رده من دون آسف عليه، أما إذا ثبت صلاحه، واتفاقه مع النصوص القطعية الثبوت والدلالة قبله، ورحب به وأنزله منزلة الشرعية المتفق عليها مع المجتمع.
إن المسلمين بفضل الله تعالى لا يشعرون بعقدة النقص تجاه الآخر، بل هم يعتزون بما لديهم من تشريعات محكمة، وبما أنعم الله تعالى عليهم من النعم الجليلة والسابغة.. هم يؤمنون بإله واحد لا شريك له، وبما جاء به الإسلام من أركان الإسلام ً والإيمان، والإحسان التي تضبط حركتهم في الحياة، وتسدد خطاهم على صراط مولاهم المستقيم، وتحميل تجمعهم وحدة نابعة من التوحيد الخالص، قال سبحانه وتعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء/ 92.
وهم أصحاب معجزة خالدة في كتاب محفوظ، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9.
ولقد تعهد الحق سبحانه بصيانته عن أي عبث بالزيادة أو النقصان، فقال جل جلاله: (.. وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)) فصلت.
إذًا، فالمسلمون يملكون موازين القسط، وحين يعرضون ما يردهم من الشرق أو الغرب عليه ليروا ما يناسب أحوالهم، وما يتفق مع ما يأمرهم به قرآنهم وينهاهم عنه لهذا، فهم لا يشعرون بالخوف من مواجهته، وإعلان موقفهم منه بصراحة شديدة، فما يرونه حسنًا، وطبقًا لموازين العدل عندهم قبلوه وعملوا به، وما يرونه غير صالح، وفيه مخالفة واضحة لمبدأٍ من مبادئ الإسلام، أو حكمًا قطعيًا من أحكام الإسلام نبذوه بقوة، ولنضرب بمثال على ذلك، الديمقراطية نظرية في السياسة والحكم استحدثها الغرب لينظم بها حركة حياته، ويضع الأسس لكيفية تداول السلطة، وهي كما قلنا نظرية واردة من الغرب في معناها ومضمونها، وهي كما جاء في موسوعة ويكيبيديا: «حكم الشعب، وهي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة، إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين في اقتراح وتطوير واستحداث القوانين».
والسؤال الذي قد يبدو محرجًا لبعض المسلمين هو: ما هو موقف الإسلام من الديمقراطية هل يرفضها جملة وتفصيلا أو يعرضها في حرية، وثقة بالنفس على القرآن الحكيم، وما يملكونه من شرائع تقنن لحاضرهم ومستقبلهم، فما وجدوه حسنًا ولا يتعارض مع الإسلام قبلوه، وما يتعارض مع قرآنهم وشرائعهم، وخاصة المحكمة ردوه في أدب جم، وسماحة قد اشتهروا بها يشهد لها الكثير من المنصفين من علماء الغرب ومفكريه.
وتؤكد الموسوعة ويكيبيديا، فتقول: يتفق الإسلام مع الديمقراطية من حيث إعطاء العامة حق إبداء الرأي ومشاورة الحكام للمحكومين، كما أن الإسلام يأمر في عديد من النصوص الشرعية كقول الله سبحانه وتعالى: (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران / 59).
إذًا، فالإسلام لا يقبل الديمقراطية على إطلاقها، كما أنه لا يرفضها على إطلاقها، بل يعرضها على موازينه المحكمة، فيقبل منها ما تقبله هذه الموازين ويرفض ما ترفضه هذه الموازين، وذلك بعد بحث واستخلاص الأدلة على صلاح هذه النظرية أو فسادها، وهذا حق مشروع يتفق مع ما تروج له الديمقراطية، وتنادي به من الحق في حرية الرأي، وحق البحث عن الأدلة التي تستخلص الصالح من الفاسد فيما يردنا من الشرق والغرب.وهنا مثال من القرآن الكريم يطيب لنا أن نستخلصه لندلل به على حق مناقشة ما يرد إلينا من القوانين والشرائع، واستشارة الثقاة من أولي الرأي والمشورة، وهذا المثال القرآني ما فعلته بلقيس ملكة سبأ حين أرسل إليها نبي الله سليمان الذي جمع مع النبوة الملك، وملكه عريض وعظيم اختصه الله تعالى دون باقي الأنبياء بملك لا ينبغي لأحد بعده، قال سبحانه وتعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (ص / 35).
عندما أرسل إليها نبي الله سليمان كتابًا يأمرها فيه أن تأتيه هي وقومها مسلمين جمعت أهل الرأي والمشورة تستفتيهم في أمرهم، ولنستمع إلى ما قصه القرآن علينا من أمرها مع قومها، قال تعالى: (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلو علي واتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35)) سورة النمل.
إنه رأي سياسي محنك، وتدبير على درجة عظيمة من الذكاء الشديد، والغريب في الأمر أن بلقيس رغم أنها ملكة إلا أن هذا لم يمنعها من أن تقول رأيها، فهي تتحدث وتعني الملوك الطغاة المستبدين منهم لا كل الملوك، وكأنها تريد بهذا الموقف، ووفق هذا الحكم على الملوك تريد أن تقول: إن الملوك ليسوا على صفة واحدة، فهناك الملوك الدستوريون الذين يشركون شعوبهم فيما يأخذونه من قرارات مصيرية، كما أن هناك صنفا آخر من الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وأهانوا شعوبها وأنزلوا بهم الهوان، وهي تريد بإرسال الهدية إلى نبي الله سليمان أن تتأكد هل هو من الملوك المصلحين أو المفسدين، وسوف تكتشف ذلك من قبوله الهدية أو ردها، وهذا الموقف السياسي الحكيم والسديد يثبت أن قومها قد أحسنوا الاختيار حين اختاروها ملكة تحكمهم، بدليل أنهم قد فوضوها نيابة عنهم في التعامل مع هذه القضية الخطيرة التي قد تبقيهم وقد تفنيهم، ونستطيع أن نقول، وبلغة هذا العصر أن بلقيس ملكة دستورية لا تنفرد بالحكم وحدها، بل تشرك شعبها في تقرير مصيره، وفِي التعامل مع مثل هذه القضايا المصيرية.
إذًا، فالديمقراطية ليست خيرًا مطلقًا، وهي كذلك ليست شرًا مطلقًا، والإسلام يقبل منها ما لا يتعارض مع أحكامه القطعية الثبوت قطعية الدلالة، ولا تتعارض مع القرآن العظيم لأنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه وتعالى».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك