السياسات البيئية التي تتخذها الدول على المستوى القومي أو على المستوى الدولي غير ثابتة، وغير مستقرة، فهي بين مدٍ وجزر، وقوة وضعف، وتتذبذب بين الصعود والنزول، وهي تتبدل وتتغير عبر السنوات مع تغير رؤساء الدول ورؤساء حكومات الدول، وقد تنقلب السياسات البيئية في بعض الأوقات رأساً على عقب وتتغير جذرياً في الاتجاه المعاكس، فهي تعتمد في ثباتها واستقرارها واتجاهاتها على استقرار الجوانب الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى القناعات الفردية والحزبية على مستوى الدولة نفسها، أو على مستوى دول العالم أجمع.
ولذلك أي تدهور في حالة الاقتصاد، وأي ركود يعاني منه الاقتصاد العام، ينجم عنه في الوقت نفسه تدهور وركود وقلة اهتمام ورغبة في تنفيذ سياسة حماية البيئة ومكوناتها الطبيعية الحية وغير الحية، فيتراجع الهم البيئي إلى الخلف، ويدخل الشأن البيئي العام في حالةٍ من الجمود، أو الرجوع إلى الوراء خطوات طويلة، فلا تجد السياسات البيئية أولوية في جدول أعمال الدول والعالم برمته من ناحية التنفيذ والتفعيل.
ولذلك أُشبه التغير وعدم الثبات والاستقرار في السياسات البيئية على جميع المستويات، كالتقلبات التي تحدث على أسعار النفط منذ أن أسْتُخرج من باطن الأرض في القرن المنصرم حتى يومنا هذا، ففي بعض الأيام ترتفع فتُسجل رقماً قياسياً لا مثيل له طوال السنوات في الارتفاع، ويوماً آخر تنزل إلى مستويات دنيا زهيدة فتسجل رقماً قياسياً في الانخفاض في سعره وقيمته.
والأمثلة على هذه التغيرات وعدم الثبات والاستقرار في الاستراتيجيات والسياسات البيئية كثيرة ومتعددة، منها على مستوى الدولة الواحدة، ومنها على مستوى منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة وقضاياها وهمومها المختلفة الكثيرة.
ومن أكثر الأمثلة وضوحاً على جميع المستويات هي سياسات الدول والأمم المتحدة تجاه قضية العصر، وهي قضية التغير المناخي، والتراجع الكبير، والترنح يميناً وشمالاً الذي يحدث في تطبيق الدول والأمم المتحدة للسياسات العملية والبرامج التنفيذية التي تكافح تداعيات التغير المناخي منذ أن ولج رسمياً إلى جدول الأعمال الدولي من باب قمة الأرض التي عُقدت في البرازيل عام 1992 وحتى يومنا هذا.
فالاتحاد الأوروبي أقر في 5 أغسطس 2021 برنامجاً طموحاً وسياسة طويلة المدى تهدف إلى خفض انبعاثات هذه الكتلة من الدول من الملوثات المُتهمة بالتغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض وإصابتها بداء السخونة المرتفعة، وذلك من خلال التحول من السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري، وبالتحديد الجازولين والديزل، والتي تنبعث منها ملوثات ارتفاع حرارة الأرض، إلى السيارات الكهربائية التي لا تنبعث منها كلياً أي ملوثات، ثم صوَّت البرلمان الأوروبي على تحويل هذه السياسة إلى قانون اتحادي في 14 فبراير 2023. ولذلك فالسياسة البيئية المعتمدة في الاتحاد الأوروبي هي دفن سيارات الجازولين والديزل ونقلها إلى مثواه الأخير بدءاً من عام 2035، أي أن الاتحاد الأوروبي سيمنع بيع أي سيارة تشتغل بالوقود الأحفوري، وتحقق بذلك «صفر انبعاث الملوثات» من السيارات، ولكن بريطانيا في عام 2020 تبنت سياسة مماثلة، ولكن اختلفت مع الاتحاد الأوروبي في تاريخ تحقيق الهدف، حيث تبنت عام 2030، أي قبل الاتحاد الأوروبي بخمس سنوات، منع بيع سيارات الجازولين والديزل.
ولكن هذه السياسة البيئية الخضراء لم تصمد طويلاً، ولم تتمكن من الوقوف قوية وثابتة أمام رياح التغيرات السياسية والاقتصادية، فقد جاء رئيس وزراء جديد لبريطانيا هو «ريشي سوناك»، فأخلف وعده، ولم يلتزم بالسياسات البيئية السابقة للحكومة البريطانية المتمثلة في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة المسؤولة عن التغير المناخي. فقد أعلن في 20 سبتمبر 2023 تغيير وتأجيل تاريخ تنفيذ السياسة المناخية من ناحية منع بيع وحظر سيارات الوقود الأحفوري من عام 2030 إلى عام 2035، كما هو الحال في معظم دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء ألمانيا. وقال رئيس الوزراء البريطاني بأننا نُحقق أهدافنا البيئية بمدخل جديد «وطريقة متناسبة وعملية وواقعية». كما غيَّر في الوقت نفسه من عبء السياسات البيئية الأخرى المتمثلة في منح مائة رخصة لاستخراج النفط والغاز من بحر الشمال، إضافة إلى التنقيب عن الفحم في أعماق الأرض، وقال بأن بريطانيا ستحتاج إلى الوقود الأحفوري في المستقبل. وفي الوقت نفسه اتخذ سياسات «أكثر شعبية» منها أنه غيَّر موعد التخلص النهائي من غلايات الغاز في المنازل وغيرها التي تعمل بالغاز أو الفحم واستبدالها بالكهرباء لخفض الانبعاث. وأفاد رئيس الوزراء بأن أحد أهداف تغيير هذه السياسات المناخية البيئية هو هدف اقتصادي يتمثل في خفض تكاليف الأعباء المعيشية على المواطنين من خلال خفض فاتورة الكهرباء، ولم يقل بأن هناك أيضاً هدفاً سياسياً انتخابياً يتمثل في كسب حب ورضا المواطن البريطاني، وبالتالي جذب ونيل صوته عند الانتخابات النيابية والبلدية، وفوز حزبه المحافظ في حكم بريطانيا.
أما على مستوى المجتمع الدولي ممثلاً في المعاهدات البيئية، فحاله لا يختلف عن سياسات الدول منفردة مع البيئة، فالسياسات البيئية أيضاً للأمم المتحدة تتقلب مع الرياح الاقتصادية السائدة، وأسعار الوقود الأحفوري مقارنة بأسعار أنواع الطاقات النظيفة والمتجددة. فعلى سبيل المثال، اجتمعت دول العالم في باريس عام 2015، وخرجت بتفاهمات التزمت بها طوعياً معظم دول العالم على الورق، منها قيام كل دولة لوحدها في وضع حدودٍ وأهداف قومية لانبعاثات ملوثات المناخ والتخلص بسرعة من استخدام الوقود الأحفوري، إضافة إلى التزام الدول مجتمعة بمنع سخونة الأرض أكثر من درجتين مئويتين، علماً بأن كوكبنا ارتفعت حرارته حتى اليوم 1.2 درجة مئوية مقارنة بحرارته قبل الثورة الصناعية.
واستناداً إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر في 8 سبتمبر 2023 المتعلق بأول عملية تقييم دولية لتفاهمات باريس 2015 بشأن تغير المناخ (global stocktake) فإن معظم دول العالم لم تتعهد بوعودها التي قطعت على نفسها في باريس 2015، ولم تلتزم بسياساتها البيئية الخاصة بالحدود التي وضعتها لخفض الانبعاث، كما أن دول العالم مجتمعة أخفقت في المشي في الطريق الذي يؤدي إلى منع ارتفاع سخونة الأرض أقل من المعدل، ومما يمنع نزول الكوارث على البشر وعلى كوكبنا. فدول العالم الصناعية الكبرى لا تنوي الالتزام بوضع جدول زمني مُحدد ونهائي للتوقف والتخلص كلياً عن استخدام الوقود الأحفوري الذي يُعد المصدر الرئيس للتغير المناخي، حسب ما جاء في إعلان الدول الصناعية السبع الكبرى(جي 7)في اليابان في 16 أبريل 2023، إضافة إلى إعلان قمة الدول العشرين (جي 20) التي اجتمعت في دلهي بالهند في 9 سبتمبر 2023.
فالواقع على المستويين القومي والمجتمع الدولي لا يبشر بخير، ولا لمستقبل زاهر للبيئة، وسيكون معوقاً لاستدامة حياة كريمة نوعياً وكمياً للأحياء الفطرية النباتية والحيوانية. فسياسات حماية البيئة ورعاية مصالحها الاستراتيجية، مهما ادعت الدول، لا تحظى فعلياً بالأولوية في جدول أعمال الحكومات، وستبقى دائماً غير مستقرة ومكانها في آخر الأولويات.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك