العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

شخوص كالمرايا!

{‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬مباغتة‭ ‬تنفتح‭ ‬بوابة‭ ‬الذاكرة‭ ‬على‭ ‬سيرة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬ووجوه‭ ‬من‭ ‬التقيناهم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العمر‭!‬،‭ ‬وقد‭ ‬تحوّل‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭ ‬إلى‭ ‬صداقات‭ ‬حميمة،‭ ‬أشعلت‭ ‬الأوقات‭ ‬بدفء‭ ‬وجودها‭ ‬ومشاركتها‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الفرح‭ ‬والحزن،‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬والهبوط،‭ ‬في‭ ‬النجاح‭ ‬والفشل،‭ ‬وكان‭ ‬لذلك‭ ‬الوجود‭ ‬عِطره‭ ‬الخاص،‭ ‬الذي‭ ‬يفوح‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬المناسبات‭ ‬العائلية‭ ‬أحياناً،‭ ‬والاجتماعية‭ ‬أحياناً‭ ‬أخرى،‭ ‬الثقافية‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬تزهو‭ ‬بالألفة‭ ‬والوطنية‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الهمّ‭ ‬يوحد‭ ‬القلوب‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬واحدة‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬المشارب‭ ‬والأفكار‭ ‬والتوجهات‭!‬،‭ ‬ثم‭ ‬إذا‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية‭ ‬أخرى‭ ‬تختفي‭ ‬حظوة‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭ ‬وتغيب‭! ‬ولكأن‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬يفتح‭ ‬بوابة‭ ‬جديدة‭ ‬للوجوه،‭ ‬فتحل‭ ‬أخرى‭ ‬محل‭ ‬الأولى‭ ‬يكون‭ ‬بعضها‭ ‬مجرد‭ ‬مصادفات‭ ‬عابرة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يتبخر‭ ‬أريجها‭! ‬فيما‭ ‬يبقى‭ ‬الآخر‭ ‬ورغم‭ ‬محدودية‭ ‬اللقاءات‭ ‬راسخاً‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬والقلب‭ ‬عميقاً،‭ ‬لأنك‭ ‬حين‭ ‬تلتقي‭ ‬أرواحها‭ ‬تشعر‭ ‬أنك‭ ‬تعرفها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭! ‬وببداهة‭ ‬إعجازية‭ ‬تعبر‭ ‬معها‭ ‬آفاقا‭ ‬رحبة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬الأفكار‭ ‬وصدق‭ ‬المشاعر،‭ ‬فتضعها‭ ‬في‭ ‬خزانة‭ ‬الذاكرة‭ ‬بين‭ ‬الشخوص‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬القلب‭! ‬وما‭ ‬أن‭ ‬يراودك‭ ‬أحد‭ ‬الوجوه‭ ‬تلك،‭ ‬حتى‭ ‬تبتسم‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬نفسك‭ ‬لتقول‭: ‬‮«‬كم‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬رائعا،‭ ‬أو‭ ‬نقيا‭ ‬أو‭ ‬عميقا‭ ‬أو‭ ‬زاخرا‭ ‬بالدفء‭ ‬والمحبة،‭ ‬أو‭ ‬صادقا‮»‬‭ ‬لتنقلب‭ ‬الصفحة‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الزمن‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬العمرية،‭ ‬فتبتسم‭ ‬أيضاً‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بأسى‭ ‬وحزن،‭ ‬وأنت‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬نفسك‭: ‬‮«‬كم‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬مخادعا،‭ ‬وذاك‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬لئيماً،‭ ‬والآخر‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬كاذبا‮»‬‭ ‬ولكنك‭ ‬نسيت‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭ ‬ووضعتها‭ ‬في‭ ‬رف‭ ‬بعيد‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬غير‭ ‬متأسف‭ ‬على‭ ‬فقدانها‭! ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬تركته‭ ‬من‭ ‬بصمة‭ ‬كانت‭ ‬ثقيلة‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الذاكرة،‭ ‬والمذاكرة‭ ‬حياة‭ ‬وألق‭ ‬وجموح‭ ‬واستكانة،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يتدفق‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬من‭ ‬استعادة‭ ‬لدروس‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭! ‬والحياة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬الشخوص‭ ‬الذين‭ ‬يملأون‭ ‬الأمكنة‭ ‬إما‭ ‬بالنسمات‭ ‬الحريرية‭ ‬الناعمة،‭ ‬أو‭ ‬بحر‭ ‬القيظ‭ ‬والانفعالات‭ ‬المجانية،‭ ‬فيكونوا‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬هم‭ ‬المكان‭ ‬وهم‭ ‬الزمان‭ ‬وهم‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فيما‭ ‬يتحوّل‭ ‬بعضهم‭ ‬الآخر‭ ‬إلى‭ ‬استلاب‭ ‬جماليات‭ ‬أو‭ ‬عاصفة‭ ‬رملية‭!‬

{‭ ‬وبين‭ ‬مرحلة‭ ‬وأخرى‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬العمر،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يسكن‭ ‬القلب‭ ‬في‭ ‬عمقه،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يخرج‭ ‬منه‭ ‬وكأن‭ ‬الأوردة‭ ‬طاردة‭ ‬له‭! ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭: ‬تآلف‭ ‬الأرواح‭ ‬أو‭ ‬تنافرها،‭ ‬هناك‭ ‬دروس‭ ‬مستحقة‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تحصيلها‭ ‬لتدرك‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬حولك،‭ ‬وحقيقة‭ ‬النفوس‭ ‬بتحولاتها‭ ‬أو‭ ‬تلوناتها‭! ‬ولكأن‭ ‬الحياة‭ ‬تتحول‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬مسرح‭ ‬مفتوح،‭ ‬فلا‭ ‬يعود‭ ‬يستوقفك‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬النماذج‭ ‬التي‭ ‬توزن‭ ‬قلوبها‭ ‬بميزان‭ ‬الصدق‭ ‬والوفاء‭ ‬والمحبة‭ ‬دون‭ ‬حسابات،‭ ‬لأنها‭ ‬مفتوحة‭ ‬كالطبيعة‭ ‬والجمال،‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تمنح‭ ‬ذلك‭ ‬الجمال‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يراه‭ ‬ويعرف‭ ‬قيمته‭!‬

{‭ ‬شخوص‭ ‬كالمرايا،‭ ‬ترى‭ ‬نفسك‭ ‬فيهم،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬بشاعتهم‭ ‬فيها‭! ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬إلا‭ ‬حقيقة‭ ‬من‭ ‬يقف‭ ‬أمامها‭! ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬المرايا‭ ‬يشعّ‭ ‬النور‭ ‬أو‭ ‬يتسرّب‭ ‬الظلام‭! ‬تنعكس‭ ‬صورة‭ ‬بحيرة‭ ‬صافية‭ ‬هادئة‭ ‬محاطة‭ ‬بالأشجار‭ ‬والعصافير‭ ‬والفراشات‭! ‬أو‭ ‬تنعكس‭ ‬بصورة‭ ‬بحر‭ ‬هائج‭ ‬مخيف‭! ‬كلٍ‭ ‬يرى‭ ‬انعكاس‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬أولئك‭ ‬الشخوص‭! ‬حينها‭ ‬إما‭ ‬تتآلف‭ ‬الأرواح‭ ‬المتلاقية‭ ‬بدفء‭ ‬التآلف‭ ‬أو‭ ‬بنار‭ ‬التنافر‭! ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تشّع‭ ‬المحبة،‭ ‬أو‭ ‬ينبعث‭ ‬الحقد‭ ‬والحسد‭ ‬والغيرة‭ ‬والأنانية‭!‬

{‭ ‬شخوص‭ ‬كالمرايا،‭ ‬تعكس‭ ‬الضوء‭ ‬أو‭ ‬العتمة‭ ‬بضوء‭ ‬أو‭ ‬عتمة‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬فيها‭! ‬ولكنها‭ ‬المرايا‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬شعلة‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬شعلة‭ ‬تماثلها‭!‬

وفي‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬وحيث‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬والنماذج‭ ‬السلبية‭ ‬نتعلم‭ ‬أيضا‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتعلمه‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الدروس‭ ‬قاسية‭! ‬أما‭ ‬النماذج‭ ‬الجميلة‭ ‬فهم‭ ‬كالواحة‭ ‬نرتاح‭ ‬فيها‭ ‬وننفض‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬آلامها‭ ‬وأشجانها،‭ ‬ومنها‭ ‬نتعلم‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬بدروس‭ ‬لطيفة‭ ‬ماتعة‭! ‬وبين‭ ‬النقيضين‭ ‬نرتحل‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬باب‭ ‬الحكمة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يصلها‭ ‬إلا‭ ‬قليل،‭ ‬ممن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬عرف‭ ‬سرّ‭ ‬التنوّع‭ ‬والتضاد،‭ ‬وعبر‭ ‬بحورها‭ ‬بصبر‭ ‬التلميذ‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتعلّم‭ ‬بصبر‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الباب‭!‬

عادة‭ ‬كان‭ ‬يعلق‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬حديث‭: (‬سيه‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬بالفرنسية‭ ‬أي‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭)! ‬والمهم‭ ‬ألا‭ ‬نفقد‭ ‬الدهشة‭ ‬والطفولة‭ ‬فينا،‭ ‬فهما‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الأسرار‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭!‬

هكذا‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العمر‭ ‬يدخل‭ ‬باب‭ ‬حياتنا‭ ‬كثيرون،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬حين‭ ‬تدخل‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬أبدًا‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تباعدت‭ ‬المسافات‭ ‬واللقاءات‭. ‬هي‭ ‬شخوص‭ ‬كالمرايا‭ ‬في‭ ‬صفائها‭ ‬وكالبحار‭ ‬في‭ ‬عمقها،‭ ‬وهي‭ ‬الطفولة‭ ‬في‭ ‬براءتها‭ ‬والجمال‭ ‬في‭ ‬رونقها‭ ‬ورقتها‭ ‬والنهر‭ ‬في‭ ‬وفاء‭ ‬سريانه‭ ‬عبر‭ ‬الوقت‭.‬

هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يحتلّون‭ ‬القلب‭ ‬دون‭ ‬استئذان،‭ ‬وحتى‭ ‬حين‭ ‬يبتعدون‭ ‬مكانيا‭ ‬يبقون‭ ‬فيه،‭ ‬وحين‭ ‬يرحلون‭ ‬نشعر‭ ‬وكأن‭ ‬حياة‭ ‬أخرى‭ ‬لهم‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬بعد‭ ‬رحيلهم‭!‬

كم‭ ‬فقدنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء؟‭! ‬ولكن‭ ‬كم‭ ‬هم‭ ‬راسخون‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا