عالم يتغير
فوزية رشيد
شخوص كالمرايا!
{ في لحظة مباغتة تنفتح بوابة الذاكرة على سيرة طويلة من الذكريات ووجوه من التقيناهم في رحلة العمر!، وقد تحوّل بعض تلك الوجوه إلى صداقات حميمة، أشعلت الأوقات بدفء وجودها ومشاركتها لنا في الفرح والحزن، في الصعود والهبوط، في النجاح والفشل، وكان لذلك الوجود عِطره الخاص، الذي يفوح في أغلب المناسبات العائلية أحياناً، والاجتماعية أحياناً أخرى، الثقافية حين كانت الثقافة تزهو بالألفة والوطنية حين كان الهمّ يوحد القلوب في صيغة واحدة رغم اختلاف المشارب والأفكار والتوجهات!، ثم إذا فجأة في مرحلة عمرية أخرى تختفي حظوة تلك الوجوه وتغيب! ولكأن الزمن الذي يسري في الزمن، يفتح بوابة جديدة للوجوه، فتحل أخرى محل الأولى يكون بعضها مجرد مصادفات عابرة سرعان ما يتبخر أريجها! فيما يبقى الآخر ورغم محدودية اللقاءات راسخاً في الذاكرة والقلب عميقاً، لأنك حين تلتقي أرواحها تشعر أنك تعرفها منذ زمن طويل! وببداهة إعجازية تعبر معها آفاقا رحبة من عمق الأفكار وصدق المشاعر، فتضعها في خزانة الذاكرة بين الشخوص الأقرب إلى القلب! وما أن يراودك أحد الوجوه تلك، حتى تبتسم بينك وبين نفسك لتقول: «كم كان هذا الشخص رائعا، أو نقيا أو عميقا أو زاخرا بالدفء والمحبة، أو صادقا» لتنقلب الصفحة على وجوه أخرى في ذات الزمن أو تلك المرحلة العمرية، فتبتسم أيضاً ولكن هذه المرة بأسى وحزن، وأنت تقول في نفسك: «كم كان هذا مخادعا، وذاك كم كان لئيماً، والآخر كم كان كاذبا» ولكنك نسيت تلك الوجوه ووضعتها في رف بعيد في الذاكرة، غير متأسف على فقدانها! لأن ما تركته من بصمة كانت ثقيلة لا تحتمل!
{ في رحلة الذاكرة، والمذاكرة حياة وألق وجموح واستكانة، حسب ما يتدفق في الوعي من استعادة لدروس الحياة نفسها! والحياة في النهاية هي الشخوص الذين يملأون الأمكنة إما بالنسمات الحريرية الناعمة، أو بحر القيظ والانفعالات المجانية، فيكونوا في لحظة هم المكان وهم الزمان وهم الطبيعة، فيما يتحوّل بعضهم الآخر إلى استلاب جماليات أو عاصفة رملية!
{ وبين مرحلة وأخرى في مراحل العمر، هناك من يسكن القلب في عمقه، وهناك من يخرج منه وكأن الأوردة طاردة له! ولكن في كلتا الحالتين: تآلف الأرواح أو تنافرها، هناك دروس مستحقة لابد من تحصيلها لتدرك حقيقة ما حولك، وحقيقة النفوس بتحولاتها أو تلوناتها! ولكأن الحياة تتحول معها إلى مسرح مفتوح، فلا يعود يستوقفك فيه إلا النماذج التي توزن قلوبها بميزان الصدق والوفاء والمحبة دون حسابات، لأنها مفتوحة كالطبيعة والجمال، لا يمكنها إلا أن تمنح ذلك الجمال إلى من يراه ويعرف قيمته!
{ شخوص كالمرايا، ترى نفسك فيهم، أو ربما يرى البعض بشاعتهم فيها! فهي لا تعكس إلا حقيقة من يقف أمامها! وفي تلك المرايا يشعّ النور أو يتسرّب الظلام! تنعكس صورة بحيرة صافية هادئة محاطة بالأشجار والعصافير والفراشات! أو تنعكس بصورة بحر هائج مخيف! كلٍ يرى انعكاس ما يحمله في داخله في مرآة أولئك الشخوص! حينها إما تتآلف الأرواح المتلاقية بدفء التآلف أو بنار التنافر! إما أن تشّع المحبة، أو ينبعث الحقد والحسد والغيرة والأنانية!
{ شخوص كالمرايا، تعكس الضوء أو العتمة بضوء أو عتمة من يرى نفسه فيها! ولكنها المرايا التي تحمل في داخلها شعلة نادرة لا يراها إلا من يحمل في قلبه شعلة تماثلها!
وفي النهاية هي الحياة بكل تفاصيلها، وحيث من الألم والنماذج السلبية نتعلم أيضا ما يجب أن نتعلمه وإن كانت الدروس قاسية! أما النماذج الجميلة فهم كالواحة نرتاح فيها وننفض عن أنفسنا آلامها وأشجانها، ومنها نتعلم الوجه الآخر بدروس لطيفة ماتعة! وبين النقيضين نرتحل في الحياة لنصل إلى «باب الحكمة» التي لا يصلها إلا قليل، ممن يكون قد عرف سرّ التنوّع والتضاد، وعبر بحورها بصبر التلميذ الذي يريد أن يتعلّم بصبر ليصل إلى ذلك الباب!
عادة كان يعلق أحد الأصدقاء بعد نهاية كل حديث: (سيه لا في بالفرنسية أي هذه هي الحياة)! والمهم ألا نفقد الدهشة والطفولة فينا، فهما أحد أهم الأسرار وهذه هي الحياة!
هكذا في رحلة العمر يدخل باب حياتنا كثيرون، ولكن هناك فئة من الناس حين تدخل لا تخرج أبدًا حتى لو تباعدت المسافات واللقاءات. هي شخوص كالمرايا في صفائها وكالبحار في عمقها، وهي الطفولة في براءتها والجمال في رونقها ورقتها والنهر في وفاء سريانه عبر الوقت.
هؤلاء الذين يحتلّون القلب دون استئذان، وحتى حين يبتعدون مكانيا يبقون فيه، وحين يرحلون نشعر وكأن حياة أخرى لهم بدأت في القلب بعد رحيلهم!
كم فقدنا في الحياة من هؤلاء؟! ولكن كم هم راسخون في قلوبنا!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك