يذكر الفيلسوف والسياسي والخطيب الروماني الشهير ماركوس توليوس سيسرو (شيشرون) أن «التاريخ هو الشاهد على مرور الزمن، فهو يُنير الواقع، ويُنشط الذاكرة، ويرشدنا في الحياة اليومية، ويبشرنا بأخبار من سبقونا»، فقد نقلت لنا المخطوطات والآثار تاريخ من سبقنا، وتركت لنا حكاياتٍ وملاحم نتداولها اليوم.
ومن أبرز تلك الملاحم ما عُرف بـ«ملحمة جلجامش»، التي تعود للعصر البرونزي من الألفية الثالثة قبل الميلاد، ومازال الطلبة والقراء يتداولون الملحمة اليوم ونحن نعيش في الألفية الثالثة الميلادية، والملحمة تعود للحقبة الزمنية التي عرفها مؤرخو الغرب بالتاريخ القديم، الذي امتد من عام 3200 ق.م مع ظهور الكتابة المسمارية في حضارة سومر حتى سقوط الشطر الغربي من الإمبراطورية الرومانية على يد القبائل الجرمانية عام 476م، وهذه الملحمة مهمةٌ بمكانٍ لنا في البحرين؛ فيُعتقد أن أحد فصولها قد جاء على أرض دلمون.
يُعالج المقال الملحمة من منظورٍ تاريخي، حيث يكشف النقاب عن أبرز المحطات التي أدت إلى إعادة اكتشافها مع استعراضٍ لأبرز أحداث الرواية، وتبيان كيف أن هذه الأسطورة قد بُنيت على شخصيةٍ فعليةٍ حكمت إحدى المدن السومرية، وبالرغم من أن الملحمة قد تأسست على ما يُعتقد أنها شخصيةٌ حقيقةٌ جابت الأرض، فإنها امتزجت بالأساطير والخرافات، ما جعلها تندرج تحت مظلة دراسات الميثالوجيا.
عرفت الأستاذة الدكتورة كاثرين ماكليموند من جامعة ولاية جورجيا الميثالوجيا على أنها «قصةٌ لها معنى أو أهمية تتجاوز حدود القصة ذاتها»، أي أن القصة تحمل معاني عميقة تهدف إلى التأثير على فكر وآراء القارئ لها. كما أن الميثالوجيا هي تعبيرٌ عن قيم الشعوب، وآمالها، وتطلعاتها، ومخاوفها، وأفراحها، وأتراحها. وتجدر الإشارة إلى أن مجموعةً من الأساطير من بينها ملحمة جلجامش قد يكون لها أساسٌ تاريخيٌ سواء كانت مبنية على شخصياتٍ أو أحداثٍ مثل معركة حصار طروادة، والملك آرثر، وبيوولف، وغيرها، حيث تمتزج هذه الأحداث التاريخية بالخيال لتُصبح مدعمةً بالظواهر الخارقة.
علاوةً على ما تقدم، تُعتبر الطبيعة البشرية القاسم المشترك بين البشر على مر التاريخ، فمشاعر الحب، والبغض، والحسد، والكراهية، والغيرة، والفضول لا تختلف بين رجلٍ أو امرأةٍ عاشوا في القرن العشرين الميلادي أو في الألفية الثالثة قبل الميلاد، لذا فقراءة التاريخ تُبرز لنا مهما اختلف بنا الزمن تلك المشاعر وكيف تعامل معها الأولون.
مهدت التجارة في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط إلى تبادلٍ بين الحضارات المتعددة في المنطقة من خلال التجارة، والأفكار، والتأثر بالمعتقدات السائدة فيها، والتأثر بالمنشآت المعمارية كما يُرى ذلك جليًا بشكلٍ ملحوظٍ في الهندسة المعمارية الإغريقية المتأثرة بمصر القديمة، لذا كان لملحمة جلجامش بالغ الأثر على المنطقة حيث تناقلتها الحضارات المختلفة من التاريخ القديم، واعتنت بها وأعادت تصوير أحداثها وتفاصيلها من خلال فن النحت.
تُعتبر ملحمة جلجامش الشعرية التي يعود أصلها للحضارة السومرية أقدم ملحمةٍ شعريةٍ في التاريخ، وذكر الأستاذ الدكتور جيسي روفوس فيرز من جامعة أوكلاهوما أن جلجامش كان الحاكم الخامس لمدينة أوروك نحو عام 2700 ق.م، وهي مدينة الوركاء جنوب العراق اليوم في المنطقة التي عُرفت من قبل الإغريق باسم بلاد ما بين النهرين، وقد جاء ذكر جلجامش كحاكمٍ فعليٍ وليس مجرد أسطورةٍ كما ورد في «صحيفة اثبات الملوك السومرية» التي تم اكتشافها في بدايات القرن العشرين الميلادي.
وكانت أوروك جزءًا من منظومة ما عُرف بـ«دول المدن السومرية»، وتقع جُغرافيًا على مقربةٍ من لكش، التي تتميز بكونها كانت موطنًا لحاكمها أور نانشي الذي عُثر على لوحٍ طينيٍ من فترة حكمه والمحفوظ اليوم في متحف اللوفر الفرنسي، جاء فيه ما قد يُعتبر أول ذكرٍ مكتوبٍ لدلمون نحو عام 2500ق.م، حيث ذُكر في اللوح الطيني أن الأخشاب كانت تُجلب من دلمون إلى لكش.
ولو وضعنا الفترة المذكورة من حكم جلجامش في سياقها التاريخي فإن فترة حكمه سبقت شخصياتٍ مرموقةً من تاريخ بلاد ما بين النهرين، فقد سبق سرجون الأكدي الذي حكم في الفترة ما بين 2334 ق.م حتى 2279 ق.م، كما سبق نحو الألف عامٍ ظهوره قانون حمورابي نسبةً إلى الحاكم البابلي الشهير من سلالة الأموريين الذي حكم في الفترة من 1792 ق.م حتى عام 1750 ق.م.
وصلت الملحمة إلينا اليوم من خلال 12 لوحًا مسماريًا باللغة الأكدية، دُونت في الأصل باللغة السومرية، وتوجد بعضٌ من تلك الألواح معروضةً في المتحف البريطاني، وخُطت الملحمة بعدة لغاتٍ اعتمدت على الخط المسماري، وقد استخدمت مجموعةٌ من اللغات الدارجة في التاريخ القديم في المنطقة الخط المسماري في الكتابة؛ منها السومرية، والأكدية، والآشورية، والبابلية، والآرامية، والعيلامية، واللوية، والحثية، وغيرها.
فيما انتشرت أسطورة جلجامش في بلاد ما بين النهرين، ووصلت إلى الشام وحتى الأناضول، وعُرف بدايةً بطل الملحمة في اللغة السومرية باسم «بلجامس»، وفي الأكدية «جلجامش»، وهذا هو الاسم الذي عرفه واعتمده المؤرخون، وخبراء الآثار، والكتاب، والمترجمون، عندما يرد ذكر بطل الملحمة.
يُزعم أن والد جلجامش أو جده هو لوغالباندا الذي حكم أوروك قبله، وأمه المعبودة نيسون وهي في الأصل إحدى زوجات لوغالباندا، حيث وصفه البعض -أي جلجامش- بأن ثلثيه مقدسٌ أو معبود، وقد أُعجب الأكديون في الشمال الذين حكموا السومريون فيما بعد بالأسطورة، وقاموا بترجمة الملحمة، وكذلك غيرهم من حضارات بلاد ما بين النهرين ومنهم البابليون.
من المهم استعراض خلفية إعادة اكتشاف الملحمة الشعرية وكيف أصبحت في متناول أيدي القراء في التاريخ الحديث والمعاصر، فقد قام شاعرٌ بجمع وتدوين الأسطورة على مجموعةٍ من الألواح الطينية، وعُرف الشاعر باسم سين-لقي-ونيني (أي: المعبود «القمر» الذي يقبل صلاتي) في قرابة عام 1100 ق.م، ويرجع الفضل إليه في جمع أفضل نسخةٍ من الملحمة وهي النسخة التي اعتمد كثيرٌ من المترجمين عليها، حيث قام النساخ المذكور بتدوين اسمه على الألواح الطينية التي تم العثور عليها وفيها ملحمة جلجامش.
عبر العقود تمت إعادة نسخ الملحمة كما دونها سين-لقي-ونيني، حيث كان النُّساخ يتدربون على عملية نسخ من خلالها، وقد تم إعادة استكشاف الملحمة ضمن آثار مدينة نينوى شمالي العراق اليوم في عام 1849م، وقد أتى ذلك بعدما أن قام أوستن هنري لايارد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي بالعثور على بقايا قصرٍ يتبع للحاكم سنحاريب، سادس حاكمٍ من حكام الإمبراطورية الآشورية الحديثة.
وفي القصر عُثر على مكتبة آشوربانيبال الشهيرة (حفيد سنحاريب)، وعاش آشوربانيبال في القرن السابع قبل الميلاد، وأرسل لايارد في عامي 1850م و1853م مجموعةً من الألواح الطينية إلى المتحف البريطاني، وهذه كانت بمثابة انطلاقة لما عُرف بعلم الآشوريات المعنية بدراسة ما تم تدوينه بالخط المسماري مهما اختلفت اللغة التي دونت فيها.
بعدها تمكن الخبير البريطاني جورج سميث من قراءة مجموعةٍ من الألواح التي تم نقلها إلى المتحف البريطاني، وفي يومٍ ما وبينما كان يطلع على مجموعةٍ منها إذ به يُمزق ثيابه من شدة فرحه وذهوله بعد اكتشافه أمرا عظيما في أحدها يعود تحديدًا إلى ملحمة جلجامش ويتعلق بذكر الملحمة طوفانا عظيما حل عليهم.
كما قام هُرمز رسام بعدة اكتشافاتٍ مهمةٍ أيضًا في هذا النطاق، وأرسل عددًا كبيرًا من اللوائح إلى المتحف البريطاني، فيما نُشرت أول ترجمةٍ للملحمة إلى اللغة الإنجليزية في عام 1930م على يد الباحث وعالم الآثار البريطاني ريجاند كامبل تومسن.
وبين الفينة والأخرى يتم إعادة ترجمة الملحمة وتنقيحها بناءً على أحدث الاكتشافات الأثرية، ويوجد اليوم نحو 266 مصدرًا للملحمة، وعُرفت الملحمة بعد إعادة استكشافها بمسمًى آخر عند البعض مثل «هو من سبر أغوار الأعماق»، والمقصود فيها جلجامش نفسه.
بالنسبة إلى الملحمة فهي تستعرض مغامرات البطل جلجامش، وكيف سعى للبحث عن الخلود الأبدي وفشله في تلك المهمة، وتذكر الملحمة الشعرية في بدايتها أن جلجامش قد اشتُهر عنه جبروته وغطرسته، فشاءت المعبودات كبح جماحه، فأقدمت المعبودة آرورو على خلق خصمٍ له خارج أسوار المدينة عُرف باسم إنكيدو، الذي عاش بين الحيوانات والأرواح المتوحشة والشريرة.
بعد أن قامت امرأةٌ بإغواء إنكيدو حدث تغيرٌ هائلٌ في شخصه فهجرته الوحوش والحيوانات، هنا قرر إنكيدو دخول أسوار مدينة أوروك، وهذه عبارةٌ عن انتقاله من العشوائية إلى التحضر والحياة المدنية، وعند دخوله المدينة وقعت بينه وبين جلجامش مواجهةٌ فدب شجارٌ بين الاثنين انتهى بانتصار جلجامش بشق الأنفس على إنكيدو.
تكونت بعدها صداقةٌ بين الشخصيتين، فقررا خوض مغامرةٍ للتخلص من وحش غابة شجر الأرز الذي عُرف باسم خومبابا أو هومبابا، وقد تمكن الاثنان من العثور على الوحش المذكور، الذي طلب منهما الرحمة بروحه فرفضا طلبه فلعنهما وقتلاه.
أُعجبت المعبودة عشتار بجلجامش الذي طلبت الزواج منه فرفض البطل السومري طلبها، هنا ألحت عشتار على آنو زعيم المعبودات بمعاقبة الرفيقين، وإن لم يفعل فسوف تصرخ بأعلى صوتها صرخةً تُعيد للموتى الحياة ليُسلطوا على الخليقة ليأكلوهم.
بعدها تم تسليط ثور الجنة -كما يزعمون- على المدينة لقتل الناس وتدمير المحاصيل كعقوبةٍ لجلجامش، فواجه جلجامش وإنكيدو الثور فقتلاه دفاعًا عن المدينة، وجاء أمر المعبودات بقتل واحدٍ من الرفيقين، فوقع الاختيار على إنكيدو، وتم لهم ذلك، بعد أن دب به المرض وتوفي فأرسلت روحه إلى العالم السفلي، حزن جلجامش على ما حل برفيقه، ولم يرض أن يُصدق الأمر إلا بعد مرور عدة أيامٍ أنه قد توفي، فقرر المُضي قدمًا للبحث عن سبيلٍ للخلود، فجاب البراري وهذا مؤشرٌ لتركه الحياة الحضرية وانتقاله إلى العشوائية.
جاب جلجامش أطراف الأرض وأنفاقها حتى وصل إلى مكانٍ التقى فيه بحكيمةٍ عُرفت باسم سيدوري، التي أكدت له أن البشر غير مُخلدين، وأن عليه الكف عن هذه المغامرة والاستمتاع بما تبقى من حياته، فرفض جلجامش الاستسلام، فأرشدته سيدوري إلى شخصٍ حكيمٍ يُدعى أوتنابيشتيم، الذي يقبع ما وراء البحار في مكانٍ يعتقد مجموعةٌ من الخبراء أنه دلمون، وقد خُلد هو وزوجته، وعُرف عنه صناعته سفينة بأمرٍ من المعبودات للنجاة من الطوفان.
كما أخبرته أنه يُمكنه الوصول إليه من خلال شخصٍ يُدعى أورشنابي، وهو الوحيد الذي يستطيع نقله إلى مكان أوتنابيشتيم عبر مياه البحر، فيما تمكن جلجامش من الوصول إلى أوتنابيشتيم الذي حثه أيضًا على الكف عن هذه المغامرة فأبى.
هنا أخبر أوتنابيشتيم جلجامش أنه إذا تمكن من مقاومة النوم عدة أيامٍ فلعل المعبودات ستهبه القدرة على الخلود، ففشل جلجامش في المهمة، ومن ثم أخبره الحكيم عن زهرة الخلود المغروسة في أعماق البحار القادرة على منحه الخلود الأبدي في حال ما عثر عليها.
تمكن جلجامش من العثور على الزهرة، التي سرقتها منه الأفعى فتبدل جلدها -أي أن الزهرة كانت ستهبه ما كان يتمناه كما جاء في الأسطورة- فيما تذكر المنقبة الهولندية الدكتورة إليزابيث سي. أل. ديورنغ كاسبرس الآتي: «وكانت دلمون الوجهة النهائية للبطل شبه المعبود جلجامش، حيث كان يطمح إلى الحصول على (النبتة) التي كانت ستُريحه في مشواره الأخير كإنسانٍ يموت»، كما جاء في دراستها التي نشرتها في «وقائع ندوة الدراسات العربية» بعنوان «المرجان واللؤلؤ وتجارة الخليج ما قبل التاريخ» عام 1983م.
هنا وصل جلجامش في قرارة نفسه أنه لا مفر من الموت، ورجع إلى مدينته وقرر أن يُصبح حاكمًا عادلًا مع الجميع. وتُشير الملحمة في نهايتها إلى أن أبرز الآثار التي تركها جلجامش هي أسوار المدينة التي شيدها، أي أن المرء يترك وراءه أثرًا ماديًا أو غير مادي من الممكن أن يبقى على مر الأزمنة وهذه وسيلةٌ للخلود، وقد قرر جلجامش تدوين حكايته ليقوم الجميع بقراءتها والعظة منها.
{ المدير التنفيذي بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك