لماذا تتردد كثيرا عبارة «الزمن الجميل» في وصف القرن العشرين، أو بعض العشرات من سنينه التي عاشها جيل «المحظوظين» كما يتم وصفهم؟... ولماذا يزداد ترديد هذا الوصف «الجميل» كلما تقدم الزمن؟ ولماذا صارت الأغاني العاطفية القديمة لعباقرة الغناء والموسيقى والشعر هي أغاني «الزمن الجميل»؟... وأفلام الأسود والأبيض، العربية والأجنبية، الكوميدية والتراجيدية وغيرها من أفلام الحروب والإثارة، القديمة، كلها توصف بأفلام الزمن الجميل»؟... ولماذا بات هذا الوصف «الجميل» يتردد كثيرا على لسان الجيل الجديد؟ وكأنه يتحسر على زمن لم يعشه، وهو لا يعرف تفاصيله الدقيقة التي عاشها آباؤهم.
ردا على تساؤلاتي، التي تؤكد أن «حالة الزمن الجميل» قد تحولت إلى ظاهرة سيسيولوجية تستحق البحث، سأتحدث في هذه المساحة البسيطة، بإيجاز، عن بعض عناصر وأسباب هذه الظاهرة؛ ولربما نصل إلى نتائج إيجابية تكون دافعا للتمسك ببعض من مقومات ذلك «الزمن الجميل»، لمنع المزيد من نظام التردي القيمي الذي يجتاح المجتمعات، والذي وصفه الدكتور الأكاديمي الكندي آلان دونو بـ«نظام التفاهة»؟
بداية وبإيجاز، إن أول ما يمكن أن نصف به القرن العشرين بأنه كان قرن الحربين العالميتين الأولى والثانية، الذي يجب قياسه بمقاييس الحروب المدمرة التي يعيشها زمننا الحالي لتمييز الفرق بين العصرين، وهو أن الحروب القديمة كانت حروب العسكر، وليس حروب محاربين... والفرق بينهما يتلخص بإيجاز في أن للعسكر قيَما ومبادئ تهتم أكثر بالانتصار مع الاحتفاظ بالشرف العسكري الذي لا يملكه المحارب الذي يعمل بهدف الانتصار من خلال قتل أكبر عدد من أفراد العدو؛ إذ إن قيم المحارب هي القتل، والتدمير، ولا شيء غيرهما، وهذا ما يلخص الفرق بين حروب ذلك الزمان، وحروب زمن التفاهة.
ولو تركنا الشأن السياسي جانبا، يمكننا الحديث عن الجانب الرومانسي للقرن العشرين، الذي تميز به بعض من عقود ذلك القرن، تعويضا عن سنوات الحروب الطويلة التي مر بها، وما رافقها من سنوات الكساد الاقتصادي ومآسيه المدمرة.
هي السنوات التي عشناها نحن العرب، مع سنوات التحرر من الاستعمار، وسنوات التنمية والرفاه الاقتصادي وانتشار التعليم، الذي دفع بأفواج من أبناء الخليج وشبه الجزيرة العربية إلى أن تتوافد على مختلف العواصم العربية للدراسة في جامعاتها. في تلك السنين الجميلة التي كان العرب يعيشون تحت مظلة الأخوة العربية، للتقدم بالعلم وبناء نظام تعليمي متميز، كان الصدق والأمانة شعارهم... ومع الازدهار العلمي والثقافي حظي العربي بفرصة التعرف على مختلف العلوم، والاطلاع على الأدب العالمي عبر سلسلة منظمة من الترجمة كمؤشر على الانفتاح والتعارف بين الحضارات والأمم عبر الثقافة والفنون، والآداب.
في ذلك الزمن الوردي كان الاحتفاء يتم بأسماء أبطال الثورات وقصصهم، وبتضحيات الأمهات من أجل أوطانهم، كما كان يتم الاحتفاء بأبطال قصص الأفلام الراقية في قيم الشجاعة والأمانة والجمال... كان البطل القومي يقاس من خلال قيم ابن الجيران في حماية ابنة حارته، كما كانت نذالة الخائن لوطنه تقاس بنذالة التاجر غير الأمين الذي يغش في الكيل والميزان.
في ذلك الزمن كانت قيم الدين الإسلامي، وجميع الأديان، تُمارس من خلال الأخلاق والعفاف والعدل والإنصاف، ولم تكن المنابر تشتم أو تنبذ أو تتوعد وتنذر أو تُحرّم وتحلل ما تشاء.
وفي تلك السنوات كانت الثقافة قيمة أخلاقية بدونها يعيش الإنسان معزولا منبوذا... وكان الوعي يقاس بمقدار إنسانية الإنسان وما يملكه من قيم الحب والعواطف النبيلة الشريفة والصادقة... فكان لأصحاب الكفاءات العلمية مرتبة أعلى من أصحاب الثروات... كما كان لأصحاب الثقافة والوعي السليم درجات من الاحترام أعلى من أصحاب المناصب والسيارات الفارهة.
في ذلك الزمن الجميل، والجميل جدا، كان للفن والأدب والموسيقى والغناء قيمة إنسانية راقية، فتميزت مجتمعاتنا بعمالقة الفن والأدب والرواية والترجمة والغناء، وعمالقة من الملحنين الذين لم يعوضنا الزمن عنهم... وكان هناك احترام كبير لخصوصية الإنسان مهما كان مشهورا، وكان الناس ينبذون الابتذال والعري وإشهار الخصوصيات، وهوس الثراء.
بإيجاز، في زمننا هذا نحن نتحسر على ذلك الزمن الجميل؛ لأننا نعيش عصرا ماديا حتى النخاع، يخلو من كل جمال إنساني وأخلاقي راقٍ، ومن المصداقية والوقار، بل هو عصر تافه كما وصفه آلان دونو... أرجو أن تكون رسالتي قد وصلت، لأنني لا أملك وقتا لأشرح المزيد.
ولكن سيبقى للحديث بقية..
مي زيادة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك