لإنصاف الحقيقة والتاريخ يجب تسجيل أهم حدثين ثقافيين لعام 2023 في منطقة الخليج العربي، بمؤشرات عودة الوعي المجتمعي الخليجي؛ عودة من حالة استلاب الوعي الثقافي والاجتماعي التي ألَمّت بمجتمعاتنا، بأدوات وسياسات ناعمة، منذ عقود.
الحدث الأول جاءت تباشيره مع بداية صيف 2023 في خبر بسيط ولكنه مهم ومميز، حول دعوة وجهتها مجموعة من السيدات الكويتيات الفاضلات من قبيلة مطير لترك العادات المجتمعية الاستهلاكية المكلفة والثقيلة على النفس، والدخيلة على مجتمعاتنا، التي باتت تشكل عبئًا ماديًّا ومعنويًّا وسلوكيًّا على الأُسر والأفراد في ظل الظرف الاقتصادي السيئ الذي يعيشه العالم، ومنطقتنا؛ وقد أوجز الخبر تعريف تلك العادات في الاحتفالات المُكلفة لمناسبات الخطوبة والزواج والولادة وهدايا السفر وغيرها، التي أسهمت في تشكيل نمط المباهاة بالمظاهر الخاوية، وفقدان الحميمية في العلاقات بين الناس، منذ بدايات طفرة الثراء النفطي، هذه الطفرة التي نتوقع أننا نعيش تراجعها اليوم بفعل طفرة انخفاض أسعار النفط وارتفاع أسعار السلع، واجتياح التضخم الاقتصادي كافة أرجاء العالم منذ نهاية فترة كورونا، ثم بداية الحرب الأوكرانية.
لا يمكن أن تمر أزمات الركود الاقتصادي العالمي من دون تأثير مباشر على مجتمعات الرفاه المالي، بدءًا بالتغيير في السلوك الاستهلاكي، ونمط المعيشة؛ ولربما يمكن أن نستبشر خيرًا من هذه الأزمات القاسية التي ستكون سببًا في عودة العقلانية الاستهلاكية إلى وعي الأجيال التي تعيشها، التي لن تعيش رفاه الوفرة المالية التي عاشها آباؤهم.
أما الحدث الثاني فقد فاجأنا مع نهاية صيف 2023، من خلال ما نشرته الصحف في خبر بسيط ولكنه مهم ومميز أيضًا، هو إعلان أولياء أمور طلبة مدرسة ابتدائية خاصة «رفضهم قرار المدرسة بتغيير لغة الدراسة لمادة الإسلاميات إلى اللغة الإنجليزية»، مستنكرين عبر رسالة نشرت على مواقع التواصل «إن المدرسة قامت بإرسال رسائل إلكترونية لأولياء الأمور مفادها أنه سيتم تغيير لغة الدراسة لمادة الإسلاميات إلى اللغة الإنجليزية»، ما دفع أولياء الأمور إلى المطالبة باستخدام اللغة العربية (الأم) في تعليم عقيدتهم والدين الحنيف، وخصوصًا أن المدرسة في بلد عربي مسلم، لغته الأولى هي العربية.
خبران يبشران بعودة الوعي المجتمعي... الوعي القادر على تمييز مخاطر الإفراط الاستهلاكي على العلاقات الإنسانية والأسرية؛ والوعي بالعلاقة بين اللغة وهوية الإنسان وعقيدته وثقافته وقِيَمه، كأهم عناصر الانتماء إلى الوطن، وإن اجتثاثهما يدفع بالأجيال إلى انتماءات وثقافات خطرة على مستقبل الوطن وأمنه وتطوره.
فيا ترى هل ستلقى دعوة السيدات الكويتيات قبولا واهتماماً من المثقفين والإعلاميين، والمنابر الأكاديمية والدينية والاقتصادية العربية والخليجية؟ أم ستمر هذه الدعوة دون صدى أو مبالاة لتستمر مجتمعاتنا في النزيف الاقتصادي والقيَمِي الذي تعيشه منذ نصف قرن تقريباً.
نحن نسأل لأننا نعلم جيداً أن هناك توجها فكريا اقتصاديا ليبراليا يرفض ترشيد الاستهلاك في مجتمعاتنا، لأنه يعد أحد أهم مصادر زيادة ثروات أصحاب رؤوس الأموال؛ وهذا التوجه يقف وراء عدم المبالاة بهذا الخبر وأمثاله.
ويا ترى هل حصل أولياء الأمور في تلك المدرسة على مطلبهم في تدريس مادة الإسلاميات لأبنائهم بلغتهم الأم، العربية؟ وهذا ما لم تذكره الصحف التي تناولت الخبر دون أن تتناوله بالبحث والمتابعة والدعم.
ونسأل هذا أيضاً لأننا نعلم أن هناك فئات فاعلة في بلداننا لا تضع أي اعتبار للغة العربية وعلاقتها بالهوية والانتماء الوطني، وهذا أيضاً توجه يقف وراء عدم المبالاة بهذا الخبر وأمثاله.
لهذا وذاك، لم يحظ الخبران بأي تفاعل إعلامي خليجي، رغم أهميتهما الوطنية والاجتماعية والإنسانية، وخصوصاً في بلداننا المهددة بهويتها، داخلياً وخارجياً.
وأخيراً، وبعد ما فرشناه من أمر الخبرين، فإننا لا نملك إلا أن نوجه عتبنا الشديد على لامبالاة الإعلام بهذا النوع من الأخبار، وما لهذا الأمر من مؤشرات على إعلام قاصر ثقافياً وفكرياً... ومؤشرات باتجاه استلاب الوعي، وليس عودة الوعي.
سنتوقف هنا، على أمل أن يكون في عتبنا هذا ناقوس خطر يرن في الأسماع والأذهان... والمستقبل أمامنا.
وسيبقى للحديث بقية..
مي زيادة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك