العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

إنهم يسرقون أعمارنا!

{‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬العمر‭ ‬الإنساني‭ ‬إلا‭ ‬الوقت‭! ‬وكيف‭ ‬تقضي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬وكيف‭ ‬تستفيد‭ ‬منه‭! ‬وكيف‭ ‬تبني‭ ‬أو‭ ‬تبلور‭ ‬عمق‭ ‬المعارف‭ ‬التي‭ ‬تكتسبها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العمر‭! ‬وكيف‭ ‬تحقق‭ ‬فيه‭ ‬إنسانيتك،‭ ‬وعبادتك‭ ‬وأخلاقياتك‭! ‬وكيف‭ ‬ترسم‭ ‬صلاتك‭ ‬العائلية‭ ‬والأسرية‭ ‬ومع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الجيدين‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬حيّ‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬المباشرة‭ ‬والإنسانية‭ ‬الحميمية‭!‬

اليوم‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬للانقراض،‭ ‬وبصيغة‭ ‬أخف‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬للاستبدال‭! ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬لدى‭ ‬أغلب‭ (‬التائهين‭) ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التطورات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والافتراضية‭ ‬أرخص‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬انقضاء‭ ‬العمر‭! ‬والإحساس‭ ‬الزائف‭ ‬بامتلاء‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يفيد‭ ‬حقيقة‭ ‬في‭ ‬تعميق‭ ‬المعرفة‭ ‬وتبلورها‭!‬

{‭ ‬زادت‭ ‬جرعة‭ ‬‮«‬الملهيات»؛‭ ‬بمعنى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يلهو‭ ‬به‭ ‬الإنسان‭! ‬مثلما‭ ‬زادت‭ ‬جرعة‭ ‬الترفيه،‭ ‬فالوقت‭ ‬يمرّ‭ ‬معهما‭ ‬سريعًا،‭ ‬والإحساس‭ ‬الزائف‭ ‬بالمتعة‭ ‬يتضخم،‭ ‬حتى‭ ‬يعتقد‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أنه‭ ‬يحقق‭ ‬سعادته،‭ ‬بل‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الامتلاء‭ ‬فيها‭! ‬أصدقاؤه‭ ‬‮«‬الافتراضيون‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يقضي‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬الدردشة‭ ‬معهم،‭ ‬أو‭ ‬مجادلتهم‭ ‬أو‭ ‬تبادل‭ ‬الفيديوهات‭ ‬معهم‭ ‬كثيرون‭! ‬وجهاز‭ ‬‮«‬التلفاز‭ ‬الذكي‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالمواقع‭ ‬الترفيهية،‭ ‬وبرامج‭ ‬النماذج‭ ‬الفنية‭ ‬والرياضية،‭ ‬وطرائف‭ ‬القطط‭ ‬والكلاب،‭ ‬والبشر‭ ‬الذين‭ ‬رأوا‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬بدائل‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات‭ ‬وغيرها‭! ‬وطرائف‭ ‬مشاكل‭ ‬البشر‭ ‬أو‭ ‬المقالب‭ ‬التي‭ ‬يتعرضون‭ ‬لها‭! ‬والمسلسلات‭ ‬والأفلام‭ ‬وأغلبها‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الرداءة‭ ‬والتفكير‭ ‬السطحي‭! ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تطبيقات‭ ‬التواصل‭ ‬المباشر‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬أو‭ ‬الفيديو‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬عمل‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬فيكثر‭ ‬صرف‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬الثرثرات‭ ‬المجانية‭! ‬وهناك‭ ‬مسابقات‭ ‬الصوت‭ ‬والأغاني‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬البال‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يخطر‭! ‬إنه‭ ‬الوقت‭ ‬يا‭ ‬سادة‭ ‬ينقضي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬سهرات‭ ‬اللهو‭ ‬والمقاهي‭ ‬والشيشة،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الربح‭ ‬السريع،‭ ‬وتقليد‭ ‬النماذج‭ ‬الاستهلاكية‭! ‬إنه‭ ‬العمر‭ ‬ينقضي‭! ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬للوقت‭ ‬هو‭ ‬التعبير‭ ‬الآخر‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬للعمر‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخضمّ‭ ‬المزدهر‭ ‬من‭ (‬الملهيات‭) ‬وأنماط‭ ‬الترفيه‭ ‬التي‭ ‬يستعر‭ ‬أوارها‭ ‬بشكل‭ ‬دائم،‭ ‬يتنحّى‭ ‬الكتاب‭ ‬الجاد،‭ ‬وتتضاءل‭ ‬قيمة‭ ‬المعرفة‭ ‬العميقة،‭ ‬وتتراجع‭ ‬قيمة‭ ‬العلاقات‭ ‬الحميمة‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬والعائلة‭! ‬والأغلب‭ ‬منعزل‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬عن‭ ‬ذاته،‭ ‬وعن‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليه‭! ‬الأغلب‭ ‬مستغرق‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬وفي‭ ‬فضاءات‭ ‬اللهو‭ ‬بأفلام‭ ‬الأكشن‭ ‬أو‭ ‬العنف‭ ‬أو‭ ‬الرعب‭ ‬أو‭ ‬سلسلة‭ ‬الكائنات‭ ‬الفضائية‭ ‬أو‭ ‬الزومبي‭! ‬هوليوود‭ ‬وبوليوود‭ ‬مصادر‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬وأغلبها‭ ‬يصب‭ ‬فيما‭ ‬سبق،‭ ‬وبعضها‭ ‬في‭ ‬إلهاء‭ ‬رومانسي‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭! ‬

{‭ ‬قليلون‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يعبأون‭ ‬بالوقت‭ ‬باعتباره‭ ‬العمر‭ ‬القصير‭ ‬الذي‭ ‬سينقضي،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬غايات‭ ‬هذا‭ ‬العمر‭ ‬الحقيقية‭!‬

من‭ ‬يمسك‭ ‬كتابًا‭ ‬عميقًا‭ ‬اليوم‭ ‬هم‭ ‬الأقلية‭! ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬عقلاً‭ ‬نقديًا‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حوله‭ ‬هم‭ ‬النوادر‭! ‬من‭ ‬يراقب‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬حوله‭ ‬ويدرك‭ ‬بعمق‭ ‬أين‭ ‬تكمن‭ ‬الحقائق‭ ‬وأين‭ ‬الزيف‭ ‬هم‭ ‬أقلية‭ ‬الأقلية‭! ‬هؤلاء‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬تحدثوا‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الاختزال،‭ ‬لأن‭ ‬وقت‭ ‬الندوات‭ ‬محدّد‭! ‬ووقت‭ ‬البرامج‭ ‬موزع‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الضيوف‭! ‬وبالخلاصة‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬نظام‭ ‬الوجبات‭ ‬السريعة‭! ‬فحتى‭ ‬المشاهد‭ ‬يريد‭ ‬الاختزال‭ ‬فوقته‭ ‬الضائع‭ ‬فيه‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬الجديّة‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭! ‬

{‭ ‬إنهم‭ ‬كالطوابير‭ ‬النائمة‭ ‬أو‭ ‬المغيّبة‭ ‬يسيرون‭ ‬نحو‭ ‬مصائرهم‭ ‬بتؤدة‭ ‬وبغير‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭! ‬يكفي‭ ‬الناس‭ ‬ككل‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬مصائب‭! ‬بعضهم‭ ‬يقول‭: (‬إنهم‭ ‬يقتلوننا‭ ‬وليس‭ ‬بيدنا‭ ‬شيء‭ ‬نفعله‭)! ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬يقول‭ (‬لنستمتع‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬نستطيع‭... ‬تكفينا‭ ‬الكوارث‭)!‬

ولكنّ‭ ‬قليلا‭ ‬منهم‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ (‬أنهم‭ ‬يسرقون‭ ‬أوقاتنا‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الملهيات‭... ‬أو‭ ‬إنهم‭ ‬يسرقون‭ ‬أعمارنا‭ ‬بطرق‭ ‬ناعمة‭)!‬

لقد‭ ‬أكلوا‭ ‬وشربوا‭ ‬وناموا‭ ‬وضيّعوا‭ ‬وقتهم‭... ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬أضافوا‭ ‬لهذه‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬وُجدوا‭ ‬فيها؟‭! ‬الأغلب‭ ‬لا‭ ‬شيء‭! ‬ماذا‭ ‬تعلموا؟‭! ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬سفاسف‭ ‬الأمور‭! ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعبأ‭ ‬بما‭ ‬حدث‭ ‬لهم؟‭! ‬قليل‭ ‬منهم‭ ‬يعبأ‭! ‬هي‭ ‬دوامة‭ ‬التشتت‭ ‬والإلهاء‭ ‬أو‭ ‬الجري‭ ‬خلف‭ ‬متطلبات‭ ‬المعيشة‭ ‬ثم‭ ‬النوم‭ ‬في‭ ‬اليقظة‭ ‬حين‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬التيه‭! ‬

من‭ ‬صنع‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المنظومة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سخط‭ ‬المآسي‭ ‬وشراهة‭ ‬المُتع‭! ‬هو‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬التيه‭ ‬للبشر‭ ‬وسرق‭ ‬الأوقات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأعمار‭! ‬من‭ ‬يحاسب‭ ‬من؟‭! ‬لا‭ ‬أحد‭! ‬من‭ ‬هم‭ ‬السُّرّاق؟‭!‬

الكل‭ ‬يعرف‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا