عالم يتغير
فوزية رشيد
إنهم يسرقون أعمارنا!
{ لا شيء يعبّر عن العمر الإنساني إلا الوقت! وكيف تقضي هذا الوقت وكيف تستفيد منه! وكيف تبني أو تبلور عمق المعارف التي تكتسبها على مدار العمر! وكيف تحقق فيه إنسانيتك، وعبادتك وأخلاقياتك! وكيف ترسم صلاتك العائلية والأسرية ومع الأصدقاء الجيدين في فضاء حيّ من العلاقات المباشرة والإنسانية الحميمية!
اليوم يبدو أن أغلب ذلك في طريقه للانقراض، وبصيغة أخف في طريقه للاستبدال! فلا شيء لدى أغلب (التائهين) في عالم التطورات التكنولوجية والافتراضية أرخص من الوقت أو من انقضاء العمر! والإحساس الزائف بامتلاء الوقت في كل ما لا يفيد حقيقة في تعميق المعرفة وتبلورها!
{ زادت جرعة «الملهيات»؛ بمعنى كل ما يلهو به الإنسان! مثلما زادت جرعة الترفيه، فالوقت يمرّ معهما سريعًا، والإحساس الزائف بالمتعة يتضخم، حتى يعتقد الإنسان من خلاله أنه يحقق سعادته، بل يصل إلى حالة الامتلاء فيها! أصدقاؤه «الافتراضيون» الذين يقضي الوقت في الدردشة معهم، أو مجادلتهم أو تبادل الفيديوهات معهم كثيرون! وجهاز «التلفاز الذكي»، أو الهاتف الذكي ممتلئ بالمواقع الترفيهية، وبرامج النماذج الفنية والرياضية، وطرائف القطط والكلاب، والبشر الذين رأوا في أنفسهم بدائل تلك الحيوانات وغيرها! وطرائف مشاكل البشر أو المقالب التي يتعرضون لها! والمسلسلات والأفلام وأغلبها يقع في خانة الرداءة والتفكير السطحي! بل إن تطبيقات التواصل المباشر عبر الهاتف أو الفيديو هي جزء من آليات عمل الهواتف الذكية، فيكثر صرف الوقت في الثرثرات المجانية! وهناك مسابقات الصوت والأغاني وكل ما يخطر على البال وما لا يخطر! إنه الوقت يا سادة ينقضي في كل ذلك وغيره كثير من سهرات اللهو والمقاهي والشيشة، والبحث عن الربح السريع، وتقليد النماذج الاستهلاكية! إنه العمر ينقضي! لا قيمة للوقت هو التعبير الآخر بأنه لا قيمة للعمر!
{ في هذا الخضمّ المزدهر من (الملهيات) وأنماط الترفيه التي يستعر أوارها بشكل دائم، يتنحّى الكتاب الجاد، وتتضاءل قيمة المعرفة العميقة، وتتراجع قيمة العلاقات الحميمة في الأسرة والعائلة! والأغلب منعزل في ذاته عن ذاته، وعن أقرب الناس إليه! الأغلب مستغرق في العالم الافتراضي، وفي فضاءات اللهو بأفلام الأكشن أو العنف أو الرعب أو سلسلة الكائنات الفضائية أو الزومبي! هوليوود وبوليوود مصادر القصص التي لا تنتهي وأغلبها يصب فيما سبق، وبعضها في إلهاء رومانسي لا يتحقق على أرض الواقع!
{ قليلون هم من يعبأون بالوقت باعتباره العمر القصير الذي سينقضي، ولذلك لا بدّ من تحقيق غايات هذا العمر الحقيقية!
من يمسك كتابًا عميقًا اليوم هم الأقلية! من يمتلك عقلاً نقديًا لكل ما يجري حوله هم النوادر! من يراقب ما يحدث حوله ويدرك بعمق أين تكمن الحقائق وأين الزيف هم أقلية الأقلية! هؤلاء حتى إن تحدثوا فلا بدّ من الاختزال، لأن وقت الندوات محدّد! ووقت البرامج موزع على العديد من الضيوف! وبالخلاصة كل شيء يجب أن يتمّ على أساس نظام الوجبات السريعة! فحتى المشاهد يريد الاختزال فوقته الضائع فيه أشياء أخرى، لا يحتمل الجديّة إلا قليلاً!
{ إنهم كالطوابير النائمة أو المغيّبة يسيرون نحو مصائرهم بتؤدة وبغير كثير من الاهتمام! يكفي الناس ككل ما يفعله الكبار في العالم من مصائب! بعضهم يقول: (إنهم يقتلوننا وليس بيدنا شيء نفعله)! والبعض الآخر يقول (لنستمتع قدر ما نستطيع... تكفينا الكوارث)!
ولكنّ قليلا منهم يلتفت إلى (أنهم يسرقون أوقاتنا بكل هذه الملهيات... أو إنهم يسرقون أعمارنا بطرق ناعمة)!
لقد أكلوا وشربوا وناموا وضيّعوا وقتهم... ولكن ماذا أضافوا لهذه الحياة التي وُجدوا فيها؟! الأغلب لا شيء! ماذا تعلموا؟! في الغالب سفاسف الأمور! هل هناك من يعبأ بما حدث لهم؟! قليل منهم يعبأ! هي دوامة التشتت والإلهاء أو الجري خلف متطلبات المعيشة ثم النوم في اليقظة حين الدخول في التيه!
من صنع كل تلك المنظومة ما بين سخط المآسي وشراهة المُتع! هو من صنع التيه للبشر وسرق الأوقات التي هي الأعمار! من يحاسب من؟! لا أحد! من هم السُّرّاق؟!
الكل يعرف ولا أحد يعرف!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك