عالم يتغير
فوزية رشيد
اختزال الإنسان في الجسد والغرائزية!
{ مرارًا تطرقنا إلى أن الإنسان أسمى الكائنات الأرضية، ولا يمكن أن يتم اختزال وجوده ودوافعه في الجانب الحسّي الجسدي أو الغرائزي، التي جعل الله له مخارج شرعية دون أن يتمّ (استهلاك الذات) فيه كجانب لا يكتمل إلا بالجانب الروحي والفكري! وهذا ما يفرّقه عن الكائنات الأخرى أو المخلوقات الأخرى! الإنسان له أبعاد متداخلة تجعل منه كائنًا غير قابل للاختزال في الجانب الغرائزي، وإلّا أصبح بهيمي النزعة لا أكثر!
ولعلّ أكثر المفكرين الموسوعيين العرب الذين شغلهم البحث في اكتشاف العلاقة العميقة بين الحضارة الراهنة والتطوّر والحداثة الغربية وما بعدها، هو المفكر د. «عبدالوهاب المسيري»، الذي طرح برؤية عميقة خفايا «فلسفة اللذّة» المرتبطة بـ«إباحة كل أشكال الانحلال» لتجسيد تلك الفلسفة! وتأثيرها على الإنسان بشكل عام سواء كان في الشرق أو الغرب، رغم اختلاف الثقافات والتوجهات الدينية والمعتقدية!
{ د. «عبدالوهاب المسيري» قدم أطروحاته في تلك الفلسفة من خلال معايشة الغرب ومجتمعهم أثناء دراسته، ولذلك تحدث عن خبرة عملية في رصد (المنظومة الثقافية المعرفية) التي تحكم الغرب، باعتبارها مادية، رأسمالية، متوحشة وربحية على حساب الإنسان!
ماذا تصنع تلك المنظومة في الإنسان، وكيف توجهه وتختزله في «غرائزه» وأهدافه اليومية المادية الصغيرة، وتجعل منه «مادة استعمالية»! وكيف تتلاعب الشركات عابرة القارات بأحلامه الداخلية وترسمها! هذا هو «التآمر» ليس فقط على الإنسان الشرقي، وإنما هو تآمر على الإنسان الغربي، أي على الإنسان بشكل عام وعلى «إنسانية الإنسان»!
{ «فلسفة تفكيك الإنسان» تتمثل في النموذج الاستهلاكي الرأسمالي الغربي، الذي أصبح اليوم أكبر مروّج لنظام التفاهة (وللسياق الثقافي العالمي الرأسمالي) في النظرة إلى الجسد، والتمركز حول الغرائز سواء في الدعاية والإعلان أو في الدراما أو في جوائز الأدب والفن ذات التوجّه «الغرائزي» واختراق ما تم تسميته (التابو المحرّم) وخاصة حول الجسد والدين! وهو التوجه الذي انعكس كمنظومة ثقافية على الكثير من الأدباء والكتاب والشعراء للدخول في سباق مهرجانات «الجوائز الغربية»!
بل إن الخلط بين التوجهات في المجتمعات العلمية المتطوّرة، كما الادعاء بفوضى «المدارس الباطنية» والفوضى الفكرية، والعدمية، و«تغوّل الجنس»، أصبح من متلازمات فكر «ما بعد الحداثة الغربية»! إنه الإنسان التائه والوحيد والمنعزل في صومعة ذاته والباحث عن اللذّة والغرائزية أيا كان مصدرها، باعتبارها غاية الغايات! هي «الخلفية المعرفية» ذاتها للوصول اليوم باسم الحريات والحقوق إلى كل التحوّلات في المفاهيم حول الجسد والغريزة، بما يبيح تبنّي منظور الشذوذ والتحوّل الجنسي وتجسيد العزيزة مع البهائم والحيوانات، باعتبار كل ذلك وغيره من «المباحات وبالقانون» في بعض الدول الغربية!
إنها بالفعل (فلسفة تفكيك الإنسان) وإرجاعه إلى نقطة الصفر الغرائزية، وتنحية كل ما يتعلق بالروح والفكر والسّمو الإنساني، والبحث عن هدف الوجود وغاية الإنسان فيه، ليتمّ اختزال كل ذلك في الجسد والغرائز المنفلتة! وهكذا تكون قد نجحت عملية تفكيك الإنسان وتفكيك فطرته وخرائطه العقلية!
{ لهذا الاختزال وتفكيك الإنسان خلفية أخرى ترتبط بها، فلا بدّ من نظام عالمي ثقافي يؤازرها في هذا المجال، هو «نظام التفاهة» كما أشرنا أكثر من مرة، ونظام آخر يقوم على «صناعة الغباء» وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا! حيث هناك، بحسب دراسات علمية، تراجعًا ملحوظًا في (معدّل ذكاء البشر)! وتراجعًا في عمق المعارف والمنطق الطبيعي، الذي يفرّق بين الخطأ والصواب، وبين الخير والشر! لتشهد «المهارات العقلية» للإنسان تدهورًا ملحوظًا، رغم التطور التقني والتكنولوجي، وربما بسببه بشكل قاطع! حيث الانتشار الواسع للإنترنت وفضاءات التواصل أتاح كمّا هائلاً من المعلومات التي يتداخل فيها كل ما هو عشوائي بالقليل المفيد، فينتج عنه «التدهور المعرفي» في النهاية! أي كما قلنا أيضًا زادت المعلومات وقلّت المعرفة!
{ ثقافة القطيع تسيطر، ونماذج وقدوات التفسّخ الأخلاقي يتسّع تأثيرها، ليصبح الاستهلاك هو القيمة! والجسد وغرائزه هو الغاية، فيما يتراجع التفكير العميق، والبحث عن هدف السّمو الروحي والإنساني إلى الخلف، بل يصبح تعبيرًا عن الرؤية المتخلفة! لقد تمّ تفكيك الإنسان بنجاح بحسب (المنهج الرؤيوي الرأسمالي المادي والنفعي)، وأصبحت غاية الغايات لا الرقي الأخلاقي والقيم الإنسانية والطبيعة الفطرية التي خلقها الله في الإنسان، (وإنما الجري وراء المال والمتع الحسيّة والنموذج الاستهلاكي) والاستغراق في نظام الغباء والتفاهة! وفي سياقهما الحضاري الغربي، الذي يهيمن على الشعوب في أغلبها لتتحول إلى «القطيع» النموذجي والمطيع لذلك المنهج أو تلك المنظومة السائدة اليوم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك