عالم يتغير
فوزية رشيد
عالم الدهشة والإحباط والاستنارة المظلمة!
{ من المؤكد أن البشرية تمرّ بمرحلة لم تمرّ بها من قبل طوال تاريخها! وحيث ما يُقال عن الحضارات القديمة التي كانت متطورة جدًا، ومن يقول إنها كانت أكثر تطورًا مما نعيشه اليوم، لم يتمّ توثيقها في سلسلة (الرصد التاريخي المكتوب للحضارات ما قبل القديمة) بل بقيت لغزًا وربما سرًا لا تمتلك البشرية مفاتيحه! الذي نعرفه أن التطورات العلمية والتكنولوجية وغيرهما، أخذت منحى تسارعيًا منذ منتصف القرن الماضي، لتزداد وتيرة التسارع خلال العقدين الماضيين، أي منذ بدء الألفية الثالثة! وبشكل خيالي أصبح الإنسان عاجزًا اليوم عن ملاحقة ما يحدث في كل المناحي! ومن خلال التطورات «المادية» تخلخلت الأنساق والمفاهيم، سواء الاجتماعية أو القيمية –من القيم– أو الأخلاقية، حتى اعتبر المفكرون الذين يهمهم تطور المسيرة الإنسانية وقيمها ومبادئها، بالتوازي مع المتغيرات والتسارع في «التطورات المادية»، وقيمها الجديدة تعبيرًا عن (الاستنارة المظلمة)، كما وصفها أحد الفلاسفة الغربيين! هم مفكرون يعانون من العزلة!
{ الإنسان الراهن يعيش في حالة انبهار ودهشة مما يحدث حوله، وكأن عالمه الطبيعي انقلب رأسًا على عقب! ولكنها الدهشة المنطوية في ذات الوقت على الكثير من الإحباط والسوداوية!
وخاصة مع انقلاب مفاهيم الفِطرة السوّية، التي أدىّ فقدانها خاصة في المجتمعات الغربية، إلى زيادة معدلات الأمراض النفسية وحالات الانتحار والتفكك الأسري وغيره، لأنه بالخلاصة الإنسان لا يمكنه أن يتعايش مع عالم بلا مُثل أو أخلاق فهو كائن أخلاقي!.. أو أن يعيش في عالم خال من القيم الروحية، وحيث كل شيء يُساق بمنطق القوة! وتحت هذا المنطق يتم تدجين المعرفة والعلم والأخلاق وتكاملية الوجود بين عالم مادي وآخر غير مادي، أو بين عالم محسوس وعالم غير محسوس، وهو ما تطرحه الرؤية الدينية، التي تم العمل أيضًا على طمسها، في خلخلة كبيرة للوعي الإنساني! وفي تناقض كامل مع تفسير الوجود الإنساني في المنظور الإسلامي (باعتباره آخر وأصحّ الأديان للبشرية كلها)، وحيث المنظور يفسرّ هذا الوجود الإنساني بماديته وغيبيته، وبعالمه الراهن وعالم ما بعد الموت!
وبأهمية وجود المعايير لتصنيف الخير والشرّ والفوارق بينهما، مما يعتبر اليوم في عالم الحضارة الغربية «المسيطرة» حتى الآن، أنها مجرد معايير وفوارق يجب نسفها! لأن (المنظومة الجديدة) القائمة على الرؤية المادية، تتحدث فقط عن عالم وحضارة (المابعديات)، أي ما بعد الحداثة، وما بعد الإنسان! وما بعد التاريخ، وما بعد الأيديولوجيا! وفيها تختلط كل المفاهيم والأبعاد المعرفية والفلسفية، ليتم انتزاع الإنسان من إنسانيته! والطبيعة من فطرتها وحقيقتها! وليسقط الإنسان بشكل متسارع من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء والتفكيك كمقدمات للاندثار!
وحلول عالم ومجتمعات «الآلة» و«الذكاء الاصطناعي» الأكثر ذكاء من الإنسان، ومجتمعات علمية تعمل على «التزييف العميق»، ليس فقط في «العوالم الافتراضية» وتزييف الوجوه والفيديوهات بعمق، وإنما تزييف العلوم نفسها، لتخدم «الرؤية المادية العبثية» التي أصبحت تسعى لفناء البشر وليس لإنقاذهم، وتعمل على صناعة الأمراض والفيروسات ونشر الأوبئة وتجارب «الهارب» في المناخ والبيئة، وإحداث الأعاصير والزلازل، من خلال المراكز السرّية لذلك!
{ ما يعيشه الإنسان من تطورات صاروخية في ظل (الاستنارة المظلمة) في الفلسفة والمنظومة المادية البحتة، تعمل كما قال «إسبينوزا»: «أن ينسى الإنسان إنسانيته كي يتحد مع المنظومة الآلية»! وكما قال المفكر العربي د. عبدالوهاب المسيري: «هي دعوة لفقدان الهوّية الإنسانية وفقدان المركزية من خلال الاتحاد الصوفي بالآلة وقوانين المادة»! وحيث أشار أيضًا إلى: (انفصال بين الحقيقة والقيمة) وحيث التجارب العلمية لا تهمها القيم أو الأخلاق أو الإنسانية، وإنما العمل على التجريب حتى لو كانت مناقضة لكل ذلك! وهذا ما يصل بنا إلى (الاستنارة المظلمة) في الغرب سواء في العلم أو الفلسفة أو المعرفة والمفاهيم، أو النظر إلى الإنسان والوجود!
{ ومن يُسمون أنفسهم (المستنيرين العرب) لا يدركون مدى ما وصل إليه الغرب من «ظلامية» وهم لا يزالون يعتقدون أنها «استنارة» وتنوير! لأنهم ببساطة لا يملكون (رؤية نقدية معرفية وفلسفية خاصة) لما وصل إليه (المشروع المعرفي الغربي) ومنتجاته العلمية والتكنولوجية! وفشل الحداثة حين يروجون من خلال فلاسفتهم اليوم إلى عالم «ما بعد الحداثة» بأسسها المظلمة والمجافية للإنسانية والإنسان! وحيث لا صلة لها بأي منطق أو أي عقلانية أو حتى علمانية كما يفهمها العلمانيون العرب!
حتى بات الحديث عن المعنى والقيم حديثا لا معنى له في الغرب فلسفيا! ولكأننا أمام (ميتافيزيقيا علمانية غربية) دخلت المجهول، واستبدلت «الغيب الإلهي» «بالغيب العلماني»، ولكن بعد إسقاط كل شيء عن الحقيقة والإنسان!
إنه عالم وحضارة يتم فرضها بالتدريج، أو هكذا هم يخططون! لا فارق فيه بين الوهم والحقيقة، وبين الإنسان والآلة أو بينه وبين الأشياء! ولا فارق بين العلم الحقيقي الذي ينفع البشرية، والعلم الزائف الذي يعمل على فناء هذه البشرية! ولا فارق بين الطبيعة الإنسانية وتجارب تزييف تلك الطبيعة والإنسان!
كل شيء هلامي وعبثي ومنحدر أخلاقيا، والإنسان في دهشته وانبهاره يعاني من الإحباط والاكتئاب وتأثيرات (الاستنارة المظلمة)!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك