عالم يتغير
فوزية رشيد
البكاء على اللبن المسكوب!
{ في العلاقات الدولية كما في العلاقات الإنسانية تتيح الظروف فرصا لتشكيل شراكات أو تحالفات لو استوفى الطرفان شروطها القائمة على تبادل المصالح والاحترام والندية، تكون قابلة للاستمرار ولكن ماذا لو أخل طرف بالأسس القائمة، وكل همه مصلحته الذاتية من دون وضع الاعتبار لمصالح الطرف الآخر؟! وماذا لو مارس الطرف الأناني ذاته الخديعة والعذر والطعن في الظهر؟! ماذا لو تعامل مع الطرف الآخر وكأنه تابع مرهون له ولمصالحه؟! ماذا لو فجأة تراكمت المسببات وعقد الخيط الواصل بين الطرفين فأدرك الطرف الآخر أن تفكير شريكه ينصب فقط في الاستغلال والابتزاز! بما يستدعي فقدان المصداقية ومعها فقدان الثقة! وبالتالي يتم فك الشراكة الوثيقة لتنتقل إلى مرحلة أخرى هي مرحلة صياغة التوازن الجديدة بين الشركاء وفتح الطرف الآخر الباب لشراكات أخرى متاحة تحقق أو تستوفي أسسا أكثر اتزانا وأكثر انضباطا وأكثر مصداقية ومدعاة للثقة؟! هنا الطرف الغادر يصاب فجأة بجنون الفقدان لأنه لم يكن قد وضع في اعتباره لطغيان غروره أن يتمرد الشريك على أنانيته ومنطقه المعوج! فيبدأ بركوب سلم التراجعات ولكن من دون فائدة! الآن ما انتهى لن يعود كما كان أبدا فيصاب بالخيبة تلو الخيبة وهو يبكي على اللبن المسكوب الذي تسبب في إسكابه! أليس هذا ما يحدث في العلاقات الإنسانية حين تكون بين طرفين أو أطراف يتصرف أحدها بأنانيته؟ ألا ينطبق ذلك التوازن المفقود وما يأتي به من نتائج على العلاقات الدولية أيضا وحيث الدول هي في جوهرها نتاج تفكير بشري يخطئ ويصيب كما البشر عادة؟!
{ في الواقع لنأخذ في ذلك مثالا نراه اليوم أمام أعيننا وهو مثال العلاقات الأمريكية – السعودية! لقد استهترت أمريكا كثيرا وطويلا بعلاقتها مع السعودية والخليج والعرب عموما! ليصل ذلك الاستهتار إلى حد التفكير في طعن ظهور من أسمتهم حلفاءها! لتعمل على أجندة إسقاط الأنظمة وبث الفوضى وتبني المعارضات الانقلابية كما حدث في أحداث 2011! ووصلت الولايات المتحدة إلى الغدر بالاتفاقية المبرمة بين أمريكا والسعودية حول أمنها وأمن الخليج، حين وقفت موقف المتفرج على الهجوم الإرهابي الحوثي على المنشآت النفطية قبل سنوات! وتمادت في استغلال الفزاعة الإيرانية! وفي حسبانها أن صلاحية الابتزاز والضغط بادعاء الحماية لا أجل لها! رغم أنها من تحت الطاولة وفوقها تشجع التغول الإيراني وبلا حدود، ورغم خطاب الكراهية للاستهلاك الإعلامي! بل تمادت أكثر وهي تعتقد أن من حقها احتكار الشراكة والتحالف مع السعودية والخليج دون أن يكون لذلك الاحتكار منطق موضوعي أو مفهوم أو حتى وفاء بالعهد! هذا بعض غيض من فيض السلوكيات الأمريكية المتراكمة التي انقلب سحرها على الساحر الأمريكي في السنوات الأخيرة! وخاصة منذ ظهور ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» الذي بعثر الأوراق كلها في وجه صانع القرار الأمريكي! وتشدق بايدن بأنه سيجعل من السعودية دولة منبوذة! فإذا بالسعودية تغير قواعد اللعبة بل قواعد التوازن الدولي وتعيد اللاعب الأمريكي (الذي راهن على احتكار الشراكة مع ممارسة الغدر) وقضية خاشقجي والابتزازات الأمريكية حاضرة فيها تعيده السعودية إلى زاوية الملعب وتضع أسسا جديدة للشراكة قائمة على الاستقلالية وحفظ السيادة والاحترام المطلوب لشريك كان بيده طوال الوقت مفاتيح كثيرة، ومداخل تأثير كبيرة في الوضع الأمريكي واقتصاده ودولاره ولم يستخدمها فظن الأمريكي أنه ضعف!
{ فتحت السعودية ومعها دول خليجية أخرى الباب أمام الشراكة مع الصين ومع روسيا ومع الهند وغيرها وكأنها تعلن أن احتكار الشراكة مع أمريكا وحدها قد انتهى زمنه وانتهت صلاحيته! بل قامت السعودية بإجراء اتفاق مع إيران برعاية صينية ولكأنها تقول (انتهى زمن البعبع الذي صنعتموه ووضعتموه في خلفية دارنا! نحن وحدنا ندير مشاكلنا وبرؤيتنا)! بل جعلت من قرار منظمة أوبك بلس خارج الطلبات الأمريكية! لتتخذ قرارها باستقلالية وبحسب متطلبات مصالح أعضاء أوبك بلس بما فيها روسيا التي أرادت أمريكا الانحياز السعودي والخليجي والعربي ضدها! بل فتحت السعودية الباب لمنظمات دولية جديدة ومنافسة مثل «بريكس» و«شنغهاي» لبناء نظام عالمي جديد ومعه بناء نظام مالي جديد يتم فيه قريبا استبدال الدولار بالعملات المحلية للدول المتشاركة في مصالح اقتصادية وتجارية ومالية! بل وضعت شروطا اعتبرتها أمريكا في التعامل مع الضغوط الأمريكية للتطبيع بين السعودية والكيان الصهيوني اعتبرتها أمريكا شروطا تعجيزية! هكذا انسكب لبن الشراكة التي كانت متينة في يوم ما لتصبح مجرد شراكة بين شراكات استراتيجية أخرى وعلى أسس الاستقلالية والسيادة والمصالح المتبادلة وحدها! وهكذا لا يزال صانع القرار الأمريكي في مرحلة البكاء على اللبن المسكوب بعد أن ذاق مرارة فقدان شريك لا يعوض! ولا يعرف ما العمل لاستعادته كما كان! وهو ما لن يحدث! كان يا زمان كان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك