للكلامِ أهميةٌ في التواصلِ بين الناس، ولأسلوبِ الكلام أهميةٌ أكبر في الإقناعِ وتبادلِ الأفكار والآراء... لذلك هذّب الدينُ سلوكَنا العام، وعلّمَنَا أهميةَ آدابِ الكلام، كعنصرين رئيسيين من عناصر أخلاق وشخصية كلِّ فردٍ منا، والتي نتعرف من خلالهما على بعضِنا البعض، فقال تعالى (واقصد فِي مشيك واغضض مِن صوتك إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لصوت الحمير) («سورة لقمان» 19)؛ جاعلا الخيلاءَ في المشي، ورفعَ نبرة الصوت، على درجة واحدة من السوء؛ الأول من مظاهر الغرور المكروهةِ في سلوكِ الإنسان، والثاني من الصفات البهيميَّة المكروهةِ في التواصلِ الإنساني.
ما يهمنا هنا هو التأكيد أن نبرةَ الصوتِ العالية، التي شبهها قرآنُنا الكريم بصوت الحمير، لا تعدُّ سلوكًا حميدًا في التواصل بين البشر، وكي يكونَ الإنسانُ قادرًا على التفاهمِ والإقناع والحفاظ على علاقاته مع الآخرين، عليه أن يُجيدَ آدابَ الاستماعِ والحديث، وهما صفتان يدلَّان على مَلَكَةِ الهدوءِ الذهني والنفسي، ومَلَكَة السيطرةِ على الانفعالات المتسرّعة.
أضعُ هذه المقدمةَ البسيطةَ أمام نوابِنا الكرام في البرلمان، بغرفتيه، لربما أتمكنُ من إيصالِ رسالتي نيابةً عن بعض الشعب المستاء من تمثيليات الغضبِ والصراخ التي تتكررُ في جلساتِهم الأسبوعية أمام الكاميرات والإعلاميين... والذي نقترحُ على إدارةِ البرلمان تأهيلَ النواب في دوراتٍ تدريبيَّةٍ متخصصة، لتعريفهم على المفاهيمِ الثقافيَّةِ والسلوكيَّةِ اللازمة لأعضاء السلطة التشريعيَّة، وأن تكونَ دوراتٍ متتالية على مدار الفصول والدورات التشريعيَّة، لأن التكرارَ يُعَلّم «الشطار».
إن الحوارَ أو النقاشَ هو «فنُ إدارة الاختلاف وتوجيهه بطريقةٍ جيدة»، لذلك نرجو أن نفيدَ أصحابَ السعادة أعضاءَ سلطتنا التشريعيَّة، والذين يمثلون الشعبَ وكلَّ الدولة، بأهمِّ مواصفاتِ الحديث التي يجبُ الالتزامُ بها في داخل البرلمان وخارجه، وفي التواصل مع الآخر في رحلاتهم البرلمانية، وهي: 1) التفكيرُ قبل الحديث، وأحيانًا التشاور، لتقدير قيمة ومعنى ما يطرحونه من أفكار علنًا، كي لا يصبحَ أحدُهم، أو إحداهن، هزوا، أو ما نسميه بالعامية «مضحكة». 2) إن أهمَّ أدواتِ الحوار هو حسنُ الاستماعِ والإنصات إلى الآخر، والتحكمُ في الانفعال، فنرجو عدمَ التظاهر بالغضب الذي لا لزومَ له أبدًا. 3) استخدامُ نبرةِ الصوت المناسبة، نكرر النبرةَ المناسبة و«ليست العالية». 4) الاختلافُ دائمًا هو الدافعُ إلى النقاش بهدفِ الوصول إلى اتفاق، أو تقارب الآراء ووجهات النظر، وإن لم يحدث ذلك فنرجو تقديرَ الأسباب والحفاظ على الاحترام المتبادل، وعدم استخدام ألفاظ «أو أمثال شعبية» مسيئة. 5) احترام اللغةَ العربية، واختيار الكلمات (المترادفات) المناسبة واللائقة في الحديث البرلماني، لبناء أعراف لغوية محترمة لمجلسكم، وللاحترام مقامه، ورأفةً بمسامع المستمعين الذين يتابعون أداء مجلسكم على وسائل الإعلام. 6) احترام الآخر وتجنُب الإهانة والسخرية، إذ إن أسلوبَ الكلام مؤشِّرٌ على بيئةِ المتحدث وتربيته، وشخصيته، فما تقولُه ينعكسُ عليك، وليس العكس، لأن لسانَ الإنسان يشبهه.
يا أصحابَ السعادة، أنتم ممثلو الشعب، ومسؤولون أمامه في أدائكم وأقوالِكم ومظاهركم، وأنتم مكشوفون أمام وسائلِ الإعلام، فسلوكُكم لا يمثلكم بل يمثِّلُ الشعبَ البحريني، فلا تسيئوا لهذا الشعبِ الجميل، المؤدب، المتسامح، المسالم، الهادئ... وحافظوا على صفاتنا التي تربينا عليها، رغم أن هناك جيلا جديدا تربى على تقاليد أفلام الهوليوود التي تعكسُ سلوكياتٍ وأخلاقيات شعبٍ آخر لا يشبهنا، إلا أننا نحن شعبٌ عربيٌّ يتحدثُ العربيةَ ونفخرُ بلغتِنا الجميلة، وبنفوسِنا الهادئة، ونرفضُ الشوائبَ السلوكيَّة التي نشاهدها في أداء برلماننا.
للبرلماناتُ غالبًا أعرافٌ متراكمةٌ ومُلزمة في فن أداء الحوارات العامة والأحاديث الخاصة، يعكسُها أداءُ أعضائها، ليس فقط داخل صرح البرلمان، وإنما في جميع المحافل العامة، ومن الأجدى على إدارة السلطة التشريعيَّة تعريف أعضائها وتدريبهم على بعضٍ من أعراف وآداب الكلام تيَمُنًا ببعض البرلمانات... وقد يصعبُ التغييرُ، لأن «مَن شبَّ على شيء شابَ عليه»، إلا أن «لا يأسَ مع الحياة».
وهنا أضعُ سؤالي الأزلي، لماذا؟.. نعم لماذا على مدار أكثر من 20 سنة لم نسمع أو نتعرف على أعراف وآداب الكلام البرلمانيَّة المحترمة في إدارةِ وسير جلسات المناقشة في برلماننا، ولا في تقاليد الحديث والحوار واللغة العربية التي تشكو حظها في برلمانِنا الموقر؛ ولماذا لم يتم عملُ تقييمٍ داخلي في إدارة البرلمان لوضع قواعد لمنع تكرار ظهور نماذج الحوار السيئة والمسيئة، التي نشاهدُها في كلِّ الفصولِ والدورات التشريعية أمام وسائل الإعلام.. حتى إن البعضَ يهتمُّ بمشاهدةِ جلسات البرلمان للترفيه والضحك.
لماذا؟ لا تبالي إدارةُ البرلمان بصناعةِ أعراف للحديث البرلمانيِّ، وتهتمُّ بتدريب النواب عليها، وجعلها إلزاميةً في سلوكِ وممارسات البرلمانيين في كل اجتماعاتهم وجلساتهم؟، هل يا ترى مشكلة إدارة البرلمان معرفية، أم هناك أسباب أخرى؟
بإمكاننا وضع أجوبة لكل هذه التساؤلات، ولكن نفضل لو نستمع إلى المعنيين بها.
وإلى حين معرفة الرد المقنع على تساؤلاتنا، سيبقى للحديث بقية..
مي زيادة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك