عالم يتغير
فوزية رشيد
اللمسة الإنسانية!
{ وأنا مازلت أتأمل الحال في زمن «التيك أوي» وزمن «نظام التفاهة» والذكاء الاصطناعي لدى الروبوتات، والفقر الفكري لدى غالبية البشر قياسا لما كانوا عليه قبل زمن الآلة، صادفني موضوع يصب في المجرى ذاته من الكتابة والتأمل في المقارنة بين التسارع في توفير المعلومات، والتأخر أو الخلق المعرفي البشري من جهة، ومن جهة أخرى المقارنة بين عالم الخدمات في الإنترنت، وتسهيل إيصال كل شيء إلى البيت دون الحاجة إلى الخروج، أو التسوق أو المشي في الأسواق القديمة والحديثة، وبالتالي دون الاحتكاك بالبشر! وإنما تعميق الصلة بالآلة والجهاز والشاشة والكمبيوتر، والتطلع إلى امتلاك مزيد من الأجهزة الذكية في البيت، التي توفر الجهد في الغسيل وفي الطبخ وبعضها ضروري وآخر غير ذلك وإعداد الوجبات التي أصبحت بدورها تباع جاهزة مجمدة وما عليك إلا أن تضعها في «الميكرويف».. أو «جهاز الطهي الهوائي» إلى آخر قائمة تلك الأجهزة، التي باتت الأسواق الدعائية تمتلئ بها والناس تلهث في الحصول عليها!
{ الموضوع الذي صادفني هو عن شاب أمريكي رافق والده إلى البنك لتحويل مبلغ مالي فقضى ساعة في الانتظار، ما جعل الشاب وهو يطمح إلى تحويل والده إلى عالم الخدمات المصرفية عبر الإنترنت يقول له إن كل شيء سيصل إليه وبسهولة ومن دون أي جهد أو انتظار، ولكن كان للأب وجهة نظر أخرى لم يفكر فيها كثيراً «الجيل الراهن» الذي يبحث عن السهولة في كل شيء، قد يفقد معها أشياء مهمة وإنسانية!
قال يا بني منذ أن دخلت إلى البنك هذا الصباح قابلت أربعة من أصدقائي، كما تبادلت الحديث مع الموظفين الذين باتوا الآن يعرفونني جيدا! أنت تعرف أني وحيد وهذه هي الرفقة التي أحتاج إليها. أحب أن أتهيأ للحضور إلى البنك. لدي ما يكفي من الوقت وما أحتاج إليه هو اللمسة الإنسانية! عندما مرضت جاء صاحب المتجر الذي أشترى منه الفواكه وجلس بجانب سريري يواسيني ثم أجهش بالبكاء. وعندما سقطت والدتك قبل يومين من ذلك أثناء ممارسة رياضة المشي الصباحية رآها صاحب متجر البقالة وعلى الفور أحضر سيارته، وهرع بها إلى المنزل حيث إنه يعرف أين نقطن! هل سأجد مثل هذه اللمسات الإنسانية إذا أجريت كل معاملة عبر الإنترنت؟! لماذا إذًا أرغب في أن يوصل كل شيء إلى المنزل، ما يجبرني على التفاعل فقط مع جهاز الكمبيوتر؟! أنا أرغب في التعرف على الشخص الذي أتعامل معه، وليس مجرد البائع، لأن ذلك يخلق رابطة من العلاقات.. هل تفعل أمازون ذلك أيضاً؟! التقنية جامدة لا حياة لها وأنا أرغب في أن أقضي الوقت مع البشر لا مع الأجهزة!
{ أعتقد ما قاله الآب لابنه هو الدرس البليغ الذي يحتاج إليه أبناء هذا الزمن! ويحتاج إليه كل من يلهث وراء العالم الافتراضي ويذوب فيه! ما نحتاج إليه جميعا هو العودة إلى دفء الحياة ودفء العلاقات الإنسانية، بل الحاجة إلى اللمسة الإنسانية! ما نحتاج إليه هو العودة إلى الطبيعة ومفرداتها الحميمة في إعداد الأكل وفي التسوق والمشي في الأمكنة القديمة والحديثة، حتى لا نصاب بالجمود والتعطل والصدأ كما يحدث لآلات لا يتم استخدامها! إنسان بلا حركة، بلا علاقات إنسانية قريبة بلا تفاعل، تتعطل ملكاته الفطرية إحساسا وتفكيرا وحركة! فإذا خرجنا من دائرة السهولة إلى دائرة الحركة نكون بشرا، أما قضاء الوقت مع الأجهزة تجعلنا جزءا من عالم الآلة، وخاصة إذا استغرق ذلك الوقت طويلاً وكثيراً، ولكأن مغريات عوالم الافتراض والوهم والصداقات الإلكترونية تطغى اليوم إلى حد نسيان الطبيعي في هذه الحياة! لنقع في دائرة الاغتراب والاكتئاب وهو ما يمثل اليوم أيضا ظاهرة في كل دول العالم، حين تم بالتدريج اقتلاع الإنسان من حضن الطبيعة والألفة والحركة والعلاقات الإنسانية والتجمعات الأسرية الدافئة وحكايات الجد والجدة وروعة اكتشاف العوالم في الخيال الإنساني، إلى حضن الآلة والعوالم الافتراضية التي يتفاقم سطوتها كل يوم حتى لا يعود هناك أي دافع لاستخدام العقل، أو الخيال، فالأجهزة الذكية تفكر بالنيابة، وتعطي كل الحلول! كل هذا التطور التكنولوجي لا يساوي في النهاية شيئاً أمام ما تم فقده وافتقاده من الحياة الطبيعية التي كانت! وبالأخص ما تحمله من اللمسات الإنسانية التي تشعرنا بأننا بشر واستثنائيون وطبيعيون وحالمون وخياليون ونمتلك قلوبا مليئة بالمحبة والدفء! مع الآلة لا يمكن أي شيء من ذلك! وخاصة إذا امتلكت الآلة أغلب وقتنا!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك