العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

التفاهة والفقر الفكري والإنسان الآلة!

{‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكندي‭ (‬آلان‭ ‬دونو‭) ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬شهيراً،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬،‭ ‬أصبح‭ ‬العنوان‭ ‬ذاته‭ ‬رائجاً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات،‭ ‬لأن‭ ‬الواقع‭ ‬أصبح‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬التافهون‭! ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬المؤلف‭ ‬‮«‬إن‭ ‬التافهين‭ ‬قد‭ ‬حسموا‭ ‬المعركة‭ ‬لصالحهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬لقد‭ ‬تغير‭ ‬الزمن‭ ‬زمن‭ ‬الحق‭ ‬والقيم‮»‬‭!‬

هكذا‭ ‬تولّدت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬‮«‬مجتمعات‭ ‬التفاهة‮»‬،‭ ‬وأصبح‭ ‬للتفاهة‭ ‬فلسفة‭ ‬ومنهجية‭ ‬وتقنيات‭ ‬ملاصقة‭ (‬للفقر‭ ‬الفكري‭) ‬الذي‭ ‬ينزل‭ ‬بالمعرفة‭ ‬إلى‭ ‬درك‭ ‬قدرات‭ ‬غير‭ ‬العارفين‭! ‬ليتصدر‭ ‬التافهون‭ ‬‮«‬مواقع‭ ‬التأثير‮»‬‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال،‭ ‬ولكأنه‭ ‬عالم‭ ‬يحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬الأغبياء‭! ‬كمثال‭ (‬‮«‬مواقع‭ ‬التواصل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬ترميز‭ ‬التافهين،‭ ‬أي‭ ‬تحويلهم‭ ‬إلى‭ ‬رموز‭.. ‬صار‭ ‬يمكن‭ ‬لأية‭ ‬جميلة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بلهاء‭ ‬أو‭ ‬وسيم‭ ‬وإان‭ ‬كان‭ ‬فارغاً،‭ ‬أن‭ ‬يملكوا‭ ‬عناصر‭ ‬جذب‭ ‬ويفرضوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬على‭ ‬مشاهدين‭ ‬تم‭ ‬غسل‭ ‬أدمغتهم‭ ‬بفلسفة‭ ‬التفاهة‭)!‬

{ ‭(‬التافهون‭ ‬يدعم‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً‭ ‬فيرفع‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬الآخر،‭ ‬لتقع‭ ‬السلطة‭ ‬بيد‭ ‬جماعة‭ ‬تكبر‭ ‬باستمرار‭ ‬لأن‭ ‬الطيور‭ ‬على‭ ‬أشكالها‭ ‬تقع‭)! ‬وهذا‭ ‬اقتباس‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ (‬آلان‭ ‬دونو‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تزداد‭ ‬ضراوة‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬لصالح‭ ‬التفاهة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة،‭ ‬وحيث‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬يعني‭ (‬انسحاب‭ ‬التفكير‭ ‬العميق‭ ‬والنظرة‭ ‬المتمعنة‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء،‭ ‬وبالتبعية‭ ‬إفساح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬تغول‭ ‬النزعة‭ ‬التقنية‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬التبسيطي‭ ‬والتنميطي،‭ ‬الذي‭ ‬تكرسه‭ ‬القواعد‭ ‬والأعراف‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المرعبة‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬ياسين‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب‭.‬

{‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬التجليات‭ ‬المنهجية‭ ‬لنظام‭ ‬التفاهة‭ ‬اليوم،‭ ‬هي‭ ‬الحرب‭ ‬المعلنة‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬والذكاء‭ ‬الإنساني،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬محور‭ ‬التواصل‭ ‬الطبيعي‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والكون‭ ‬وبينه‭ ‬وبين‭ ‬نفسه‭ ‬وما‭ ‬حوله‭! ‬وحيث‭ ‬الذكاء،‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ (‬أرشيف‭ ‬معلومات‭ ‬مخزنة‭) ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬يعني‭ ‬التلاقح‭ ‬المعرفي‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬المخلوقات‭ ‬وكل‭ ‬منتجات‭ ‬وتراكمات‭ ‬الحضارات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬التي‭ ‬تتداخل‭ ‬فيها‭ ‬المعرفة‭ ‬مع‭ ‬دقة‭ ‬المشاعر‭ ‬المختلفة،‭ ‬لفهم‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬ووجوده‭ ‬بتفكير‭ ‬عميق‭ ‬وتأمل‭ ‬لا‭ ‬يجيده‭ ‬إلا‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬طبائع‭ ‬الحياة‭ ‬والأشياء‭! ‬فإن‭ ‬تم‭ ‬استبدال‭ ‬ذلك‭ (‬بشفرات‭ ‬جوجلية‭) ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أو‭ ‬بأي‭ ‬نتاج‭ ‬من‭ ‬نتاجات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لصناعة‭ (‬إنسان‭ ‬بديل‭) ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحل‭ ‬محل‭ ‬الإنسان‭ ‬الطبيعي،‭ ‬مهما‭ ‬تمت‭ ‬برمجته‭ ‬بالمعلومات‭ ‬والبيانات،‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬السائد‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬الحر‭ ‬والمستقل‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬البرمجة‭ ‬العقلية،‭ ‬عبر‭ ‬الشيفرات‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬الترويج‭ ‬لها‭ ‬اليوم،‭ ‬ليصبح‭ ‬نظام‭ ‬البرمجيات‭ ‬

‭(‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬وضعها‭ ‬صانعوها‭) ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬والمدارس‭ ‬والجامعات،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬للتحصيل‭ ‬العلمي،‭ ‬وإنما‭ ‬للتعايش‭ ‬الإنساني‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وتشكيل‭ ‬العلاقات‭ ‬البشرية‭ ‬والصداقات،‭ ‬ومشاعر‭ ‬الألفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ببعضها،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توفرها‭ ‬تقنيات‭ ‬المعلومات‭ ‬الرائجة‭ ‬اليوم‭ ‬عبر‭ ‬الثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تُجرد‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬من‭ ‬طبيعته‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ومن‭ ‬عقله‭ ‬الحرّ‭ ‬وتفكيره‭ ‬الخاص‭!‬

{‭ ‬من‭ ‬متابعة‭ ‬التطورات‭ ‬الجارية،‭ ‬التي‭ ‬استبدلت‭ ‬‮«‬الكتب‭ ‬المعرفية‮»‬‭ ‬بمسجات‭ ‬في‭ ‬الفيس‭ ‬بوك‭ ‬والتويتر‭ ‬والواتساب‭ ‬والنت،‭ ‬واستبدلت‭ ‬اللقاءات‭ ‬الطبيعية‭ ‬بالحياة‭ ‬والطبيعة‭ ‬والبشر‭ ‬بشاشات‭ ‬صغيرة‭ ‬ونظارات‭ ‬‮«‬الميتا‮»‬‭ ‬والعوالم‭ ‬الافتراضية‭! ‬فإن‭ ‬المرشح‭ ‬ليس‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الفقر‭ ‬الفكري‮»‬،‭ ‬وتأصل‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬فقط‭ ‬وتحويل‭ ‬التافهين‭ ‬إلى‭ ‬رموز‭! ‬وإنما‭ ‬باستبدال‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭ ‬ومشاعره‭ ‬الاستثنائية‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬فيه‭ ‬لغاية‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬النفس‭ ‬الحرة‭ ‬والملهمة‭ ‬والمفكرة،‭ ‬يتم‭ ‬استبدال‭ ‬ذلك‭ ‬بالذكاء‭ ‬الاصطناعي‭! ‬وبمخزون‭ ‬المعلومات‭ ‬وتوجيه‭ ‬الإنسان‭ ‬نحوها‭ ‬مع‭ ‬قلة‭ ‬وندرة‭ ‬‮«‬المعرفة‭ ‬العميقة‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭ ‬بنفسه‭ ‬وبطبيعته‭ ‬وهدف‭ ‬وجوده‭! ‬لقد‭ ‬تحوّل‭ ‬الإنسان‭ ‬النادر‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬آلة‭ ‬أخرى‭! ‬آلة‭ ‬يحكمها‭ ‬ويتحكم‭ ‬فيها‭ ‬السادة‭ ‬أو‭ ‬النخبة‭ ‬العالمية‭!‬

{‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬هو‭ ‬ضريبة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتطور‭ ‬العلمي‭ ‬والتكنولوجي،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬هذا‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬وراءه‭ (‬ذكاء‭ ‬شرير،‭ ‬بعلم‭ ‬يتم‭ ‬توجيهه‭ ‬وبرمجته‭ ‬وصناعة‭ ‬المنهجية‭ ‬له‭) ‬من‭ ‬نخبة‭ ‬عالمية‭ ‬شريرة‭ ‬غير‭ ‬معنية‭ ‬بالإنسان‭ ‬كإنسان‭ ‬ولذلك‭ ‬هي‭ ‬تصنع‭ ‬كل‭ ‬التقنيات‭ ‬لتدمير‭ ‬الإنسان‭ ‬الطبيعي،‭ ‬والتعدي‭ ‬على‭ ‬عقله‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ (‬يكون‭ ‬حراً‭ ‬بدون‭ ‬شيفرات‭ ‬مبرمجة‭) ‬مثلما‭ ‬التعدي‭ ‬على‭ ‬روحه‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نسيج‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬والحواس‭ ‬والتفكير،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬بيانات‭ ‬المعلومات،‭ ‬إلا‭ ‬مجرد‭ ‬رافد‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬‮«‬العمق‭ ‬المعرفي‮»‬‭ ‬لماهية‭ ‬الحياة‭ ‬والإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬والصلة‭ ‬بالغيب‭ ‬والخالق‭!‬

فهل‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬استقبال‭ ‬مرحلة‭ ‬قادمة،‭ ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬سابقة،‭ ‬هي‭ (‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإنسان‭)‬؟‭! ‬ومرحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬الآلة‭ ‬أو‭ ‬الإنسان‭ ‬الجوجل؟‭! ‬هل‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬وتغييب‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭ ‬وعمقه‭ ‬الحقيقي‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬مقدمات‭ ‬ضرورية‭ ‬لفناء‭ ‬حضارة‭ ‬الإنسان‭ ‬واستبدالها‭ ‬بـ‭(‬حضارة‭ ‬الآلة‭) ‬مع‭ ‬تعميق‭ ‬التفاهة‭ ‬والفقر‭ ‬الفكري‭ ‬أولاً؟‭! ‬تأمل‭ ‬عزيزي‭ ‬القارئ‭ ‬فوعيك‭ ‬هو‭ ‬الحكم‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا