عالم يتغير
فوزية رشيد
حين تكبر في الكتابة ومعها!
{ لوهلة تشعر أن مسيرة حياتك لم تكن مسيرة شخصية، وأنت تعترك الكتابة، مثلما فعلت بين الرواية والقصة وقضايا الرأي! فقد اختلطت من دون أن تدري عصارة الحياة في عروقك بحبر القلم والحياة العامة، وتماهى نبضك بنبض الهموم التي شغلتك، طوال مسيرة طويلة من الكتابة اقتربت من خمسة عقود!
{ كنت تعتقد أن مسارات القضايا المؤرقة وهموم المجتمعات العربية التي لا تنتهي، هي مساراتك الخاصة، وأن طرح الرأي في تلك القضايا قادر على إحداث التغيير الإيجابي في كل ما يؤرق الإنسان العربي، أو الإنسان أينما كان، شرط ألا يكون متورطاً في الفساد والإفساد في الحياة، وداخلاً في شرورها وربط عُقد خيوطها! ثم فجأة تصحو وليس بيدك أي قرار لتنفيذ المتغيرات المطلوبة، أنك كنت في كثير من الأحيان تبحر في سفينة تمخر عباب البحر وحدها! وتتعرض للعواصف والأمواج العاتية وحدها! وتتساءل: أين ذهبت الحياة حياتك! وقد انطوت سريعاً كالسجل؟! وأين ذهب كل ذلك الحبر، وكل تلك الأوراق والكتابات المليئة بجنون الموقف، وصدق الرأي، وحمولة ثقيلة أثقلت بها العقل والقلب طوال عقود، من شجون وأحزان المجتمعات العربية وتطلعاتها، وشجون الإنسان المعاصر، الذي دارت خرائط الجغرافيا به، وهو يراقب تأثير كل التحولات الاجتماعية والسياسية والقيمية على حياته؟! وليطرح السؤال الآخر نفسه: هل كان لكل ذلك الارتحال في الكتابة ومعها عبر أهم محطات العمر الجدوى التي كنت تعتقدها وهرمت فيها؟!
{ في ذلك الارتحال عرفت بعمق أنك ككاتب إن كنت مستقلا بشكل حقيقي، فإنك ستكسب الأعداء، وأصدقاؤك هم جمهور مجهول الهويّة! قد يكتب أحدهم خطاباً للتعبير عن إعجابه، أو يهاتفك آخر لذات السبب، أو يطلب منك بعضهم العناية بقضية تخصّه، أو تأتيك الإشادة من بعض أهل الفكر والثقافة، ولكن يبقى كل ذلك في مجهول الدرب وأنت تعاين خبرات القلب في كل ما اعتركت من قضايا! فكونك مستقلا عن أي مسار حزبي، أو رسمي، أو منظمات خارجية، فحينها تكون الاستقلالية تلك جالبة لكل أشكال العداوات من «حزبيين» انتقدت أخطاءهم! أو من تنفيذيين أبديت الرأي في إهمالهم! أو من ليبراليين كتبت عن حماسهم الزائف للفوضى الأخلاقية التي جلبتها التطورات الأيديولوجيا، التي بها يدينون، خاصة مع تحولها إلى «النيوليبرالية»! أو من سفارات كتبت بما يرضي الضمير عن جرائم دولهم! أو عن «ماسونيين» منخرطين في تجمعات ماسونية لا يدركون ما وراء الأكمّة ممن على رأس الهرم! أو من ماركسيين كشفت عن ثغرات في أفكارهم أو في تجسيد تلك الأفكار! أو من قوميين تخلوا عن بوصلة قوميتهم وعروبتهم! أو من جهات لم تقدم فروض الطاعة لها! أو تكتب مدائح في الباب العالي الذي يصطفون تحته! أو من «إخوان» كشفت فساد أوراقهم! أو من «طائفيين» فسدة أرادوا السوء بالوطن وبأوطان عربية أخرى! هكذا ومع كل محطة من الأزمات العربية والمحلية، هناك من لا يعجبه أن تكون صاحب قلم حرّ ووطنيا وقوميا، أو ألا تكون مدجنّا، وصاحب مزمار في الجمع! فيتحول إلى عدو خبيث من دون أن تعلم حتى أنه يحمل لك العداء!
{ رغم كل الامتحانات الصعبة في الكتابة، إلا أن الأصدقاء المجهولين من القراء، وأحياناً المعروفين لك بسبب التواصل معهم، هم من يجعلون من مسيرة الكتابة والارتحال فيها ومعها ذات جدوى! أحياناً تعليق صادق من هنا، واهتمام وتقدير حقيقي بما تكتب من هناك، وأن يكون ما تكتب في الغالب الأكثر تداولاً في بلدك، ومتداولاً في مواقع لحشود من كتّاب وصحفيين ومثقفين ومفكرين، يشيدون بما تطرح من قضايا، فتدرك حينها الجدوى، وقيمة الفكر وقيمة الكتابة! حتى وإن كان التهميش المتعمد وعدم التقدير في أماكن أخرى جزءاً من قدر أن تكون مستقلاً، وبقدر ما تستطيع أن تكون صادقاً! فاحتفاء القلوب الصادقة هو أكبر وسام حقيقي تناله في رحلة الكتابة الطويلة!
{ لا يهم أن تكتب رواية أو قصة تراودك الكتابة فيهما كل لحظة! أو أن تكتب آراء في أرشيف المقال ترى أهمية الكتابة اليومية فيها بسبب دوام سخونة قضايا المنطقة العربية! بما لا تستطيعه الكتابات الأخرى رغم أُبهتها القيام به كدور! وهي الآراء التي تحاول قدر الإمكان مسك خيوط متشابكة في الهمّ الوطني والهمّ القومي والهمّ الإنساني! المهم أنك اخترت الاستمرار في الكتابة منذ أول حرف وأول فكرة، واستمرّ عطش الحرف معك لا يرتوي مهما كتبت! لتسجّل في أرشيف حياتك الخاصة والعامة، أنك قلت ما قلت بصدق، وأنك كتبت ما كتبت بذات الدافع وأنك عاركت القضايا الأساسية، بعيداً عن الاهتمام بما يبرز الجهود في سُلّم المقامات، وأضواء الشهرة الزائفة التي يركض خلفها الراكضون! وأجمل ما في خلاصة تلك الرحلة الطويلة أن تحترم ذاتك قبل أن يحترمك الآخرون! فالقصة كلها في النهاية تدور حول تلك الذات في اشتباكاتها الوطنية والقومية والإنسانية الفكرية والسياسية والأخلاقية، وحولها تدور قيمة التطوّر الحقيقي، ومنها تنبع المياه وهي تسير في مجراها نقيّة من كل زيف! وفي هذا الطريق حتماً لست وحدك!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك