عالم يتغير
فوزية رشيد
النكبة وأوراق من الذاكرة!
{ في هذه الوقفة مع اليوم «15 مايو» الذي يصادف ذكرى النكبة الخامسة والسبعين في فلسطين، لن نستعيد سردية ما حدث في ذلك اليوم، ولا أحداث المجازر والقتل والجرائم وحرق القرى والأمكنة، وتشريد كثير من الفلسطينيين الذين حملوا مفاتيحهم في أيديهم، أملاً بالعودة إلى بيوتهم بعد أيام! لتصدأ بعدها تلك المفاتيح في مخابئ «التغريبة الفلسطينية» في كل بلاد العالم، التي هاجروا إليها مع مرور الوقت! ولا يزال كثيرون يحتفظون بها كتعويذة لأمل قادم، يرون فيه مجدداً شمس بلادهم، ويتمرغون في ترابه وحقوله، لتنعشهم رائحة البرتقال، الذي يتفاخر به الصهاينة اليوم مع مزروعات أخرى كثيرة، إنها من ثمار أرضهم!
{ كل تلك السردية لمن جابل وعايش مأساة «النكبة» سواء من الشعب الفلسطيني أو من الشعوب العربية، بقيت محفورة في الذاكرة والوجدان، رغم كل المتغيرات التي طرأت على القضية الفلسطينية، منذ أن كان «ياسر عرفات» ومعه مجموعة أخرى من قيادات السنوات اللاحقة! يزورون الدول العربية طلبا للاعتراف بشرعية حراكهم المقاوم لاغتصاب فلسطين، ومازلت أذكر ونحن في مرحلة الدراسة الإعدادية نهايات الستينيات، حين أطل «على الطابور المدرسي الصباحي، رجلٌ بكوفيته الفلسطينية، خطب في كلمة قصيرة والنشيد الصباحي تردده حناجر الطالبات «بلاد العرب أوطاني» لنعرف بعد ذلك بسنوات أنه «ياسر عرفات»، وليستمر ذلك الخيط الوجداني مع القضية في مئات من المقالات التي كتبتها شخصيا في أكثر من منبر، والتي تابعت حركة النهوض لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي ساند وجودها الزعيم الخالد «جمال عبدالناصر»، ثم الانتكاسات الفلسطينية، والمجازر في فلسطين ولبنان واغتيال القيادات والكتاب والصحفيين من بلد إلى آخر، ثم الخروج من لبنان، إلى تونس، وقد كان لي لقاء مع «ياسر عرفات» في تونس، وهو اللقاء الثاني به والأول كان في الكويت مع الروائية ليلى العثمان في مكتبه، أما اللقاء الثاني فقد كان ذلك الذي نشر في أخبار الخليج وتناقلته الوكالات الدولية، لقد جاء كلقاء أول بعد أحداث غزو الكويت وموقف القيادة الفلسطينية منه آنذاك، ليتم التراجع التدريجي عنه بعد ذلك! بعد اللقاء وكان في وقت السحور في ليلة رمضانية بداية التسعينيات مع مجموعة من القيادات الفلسطينية، أهداني «عرفات» معطفا فلسطينيا، مطرزا ومنقوشا باليد، مازلت أحتفظ به وقال إنه لقاء بشجن عروبي فلسطيني، وحيث تشعب الحديث فيها حول التفكير بعودة القيادة الفلسطينية إلى فلسطين تحت الاحتلال، وملابسات تلك العودة! وإن كانت ستؤثر في فعل المقاومة ومنظمة التحرير الفلسطينية، حينها قال ومازلت أذكر كلامه، واللقاء مؤرشف في أرشيف «أخبار الخليج» لمن يريد الاطلاع عليه، قال: «أن نضع رجلا في أرض فلسطين هو مجرد البداية المهمة وحتى لا نبقى مرتحلين من بلد إلى آخر من دون أرض نقف عليها في ظل ظروف عربية ندرك احتمالاتها»!
{ بعد ذلك فعلا كانت العودة للقيادة، وفق «اتفاقيات أوسلو» وما تلاها! ولكن بعد رحيل «ياسر عرفات» بدأ الانقسام الفلسطيني الذي لا يزال مستمراً بين الضفة وغزة، وتواصلت آليات إضعاف السلطة الفلسطينية، وتقييدها بالاتفاقيات الأمنية مع الكيان الصهيوني، وضعفت معها حدّ التلاشي مفاعيل «منظمة التحرير الفلسطينية»!، ونشأت طبقة فلسطينية، أصبح همّها هو الاعتراف لها بكيان دولة، وفق «حلّ الدولتين»!، ولكن الزمن ومروره دون حل للقضية بتواطؤ دولي بقيادة الدول الكبرى! وبتراجع عربي بعد عدة حروب لم تنتج الأثر المطلوب مع الكيان الصهيوني!، هذا الزمن بتحولاته الجيوسياسية، والأحداث المستمرة التي أسقطت عدة دول عربية في بؤرة الفشل والفوضى كالعراق وسوريا ولبنان وليبيا، بعد «الخريف العربي»، إلى جانب الاتفاقيات الأمنية بين الكيان الصهيوني وعدة دول عربية، منذ «اتفاقيات كامب ديفيد» و«وادي العربة»، دخلت القضية دهاليز معتمة، تلاعبت بها قوى إقليمية «إيران وتركيا» وقوى دولية هي سبب استمرار القضية من دون حلّ حتى الآن، رغم مرور 75 عاما على النكبة!
{ منذ 1948 وحتى اللحظة لم يتوقف العدوان الصهيوني، الذي أخذ أشكالاً مختلفة وألواناً متعددّة، ما بين العدوان العسكري، والعدوان بالحصار، والعدوان باغتيال القيادات الفلسطينية، وهناك تقارير مؤكدة أن عرفات نفسه مات مسموماً، والعدوان بدعم الانقسام الفلسطيني بطرق ملتوية! وصولا إلى العدوان على الأقصى والمقدسات الإسلامية في فلسطين، والعدوان على الهوية الفلسطينية، وسرقة التراث الفلسطيني إلى حدّ جعل المأكولات الفلسطينية تأخذ نسب الكيان وأنها من تراثه! والعدوان على هوية فلسطين 48 داخل الكيان، والعمل على تذويب تلك الهوية، إلى أن تصل إلى العدوان بمحاولات (التهويد) وإعلان الدولة اليهودية! وأن المطلوب هو «اللاحلّ»!
{ كل ذلك وغيره كثير، تواصلت حتى اللحظة وآخرها العدوان على غزة واغتيال قيادات فلسطينية فيها، لتستمر لعبة الهدم وإعادة البناء، وقتل الأطفال والنساء، بين فترة وأخرى، فيما كل تلك العدوانات لم تجعل الشعب الفلسطيني مطواعاً لكل محاولات التطويع! بل في كل جيل فلسطيني من الشباب الذين لم يعايشوا نكبة بلدهم، يحمل في قلبه القضية، ويقاوم بروحه واستشهاده، كل أشكال العدوان على مصيره، ليدرك هذا الكيان الصهيوني، أن لا سلام له ولا لمستوطنيه من دون الوصول إلى حل شامل وعادل! ومهما اعتدى ومارس القتل والجرائم، ومهما زرع المستوطنات، وعمل على «التهويد»، ستبقى هذه الأرض عربية بحضارتها وتاريخها ومقاومة أبنائها التي لم تتوقف رغم كل محاولات التهجين!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك