«أقول وبكل تأكيد إن الصراعات الدولية انتقلت إلى البحار»، مقولة جاءت على لسان أحد المشاركين في مؤتمر «حوار المحيطات الكبرى» الذي نظمته منظمة مراقبة الأبحاث في العاصمة الهندية نيودلهي خلال الفترة من 18- 19 نوفمبر 2024 وتشرفت بالمشاركة في أعماله خلال ذلك اليومين، المؤتمر ضم وفودا بلغت 206 مشاركين من 60 دولة، بالإضافة إلى حضور كبير من عدد من المؤسسات والهيئات الهندية ذات الصلة، ولعل ما ميز المؤتمر هو كونه حواراً سياسياً أكاديمياً، حيث حرص منظمو المؤتمر على مشاركة مسؤولي الأمن البحري والموانئ في عديد من دول العالم بالإضافة إلى مشاركات أكاديميين متخصصين في تلك القضية، ومن خلال متابعتي ومشاركتي في ذلك المؤتمر المهم يلاحظ وجود نقاط توافقية وأخرى خلافية، وتتمثل نقاط الاتفاق في أولاً: إنه في الوقت الذي ازداد فيه اعتماد دول العالم على النقل البحري بنسبة كبيرة تصل إلى أكثر من 80% لبعض الدول فقد ازدادت في الوقت المخاطر الأمنية التي تواجه التجارة البحرية ومنها القرصنة والإرهاب البحري والصيد غير الشرعي وغيرها من التهديدات، فعلى سبيل المثال 80% من تجارة الاتحاد الأوروبي مع الهند تتم من خلال البحار، ثانياً: انعكاس التوترات السياسية على الأمن البحري ومن ذلك تهديد الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى تأسيس تحالف حارس الازدهار لحماية السفن التجارية في تلك المنطقة وهذا مؤشر مهم على أن العالم لن يتسامح مع تهديد أمن الممرات المائية الحيوية ، ثالثاً: بالرغم من أهمية ودور التكنولوجيا في الأمن البحري ومنها التوجه إلى صناعة سفن ذكية للحفاظ على البيئة فإن هناك جانبا آخر للتكنولوجيا وهي سوء استخدامها من جانب الجماعات دون الدول لتهديد السفن التجارية، رابعاً: إنه بالرغم من أن استراتيجيات الدول الكبرى بشأن الأمن البحري تتضمن هدف التعاون والتواصل بغرض الاستفادة من الثروات البحرية بيد أن التنافس هو السمة الغالبة على علاقات تلك الدول في البحار، خامساً: العلاقة الوثيقة بين الحفاظ على الأمن البحري وأمن الطاقة نظراً لمرور العديد من أنابيب نقل النفط والغاز عبر البحار، فضلاً عن الشحنات التجارية.
ومع أهمية نقاط التوافق تلك والتي كانت على سبيل المثال لا الحصر فإنه أثيرت نقاط خلافية أو بالأحرى مقترحات لتعزيز التعاون الدولي في مجال الأمن البحري ومن بينها أمن المحيطات أولها: الأسباب الجذرية لتهديدات الأمن البحري، فبعض الدول رأت أنها تكمن في عدم احترام الدول لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م والبعض الآخر رأى أنها بسبب ضعف أو انهيار بعض الدول ومنها الدول الإفريقية التي يبلغ إجمالي سواحلها 26000 ميل بحري، وثانيها: اختلاف أولويات الدول وانعكاس ذلك على الأمن البحري، فالدول الكبرى أولوياتها تحقيق معدلات نمو اقتصادي متسارع وسط تنافسية عالمية، وهو هدف أيضاً للدول الصغرى ولكن تلك الأخيرة ليست لديها القدرة على حماية البيئة البحرية ضمن تلك التنافسية وبالتالي يمثل ذلك تحدياً وتهديداً هائلاً للأمن البحري وخاصة تحدي خفض الكربون في استخدامات البحار، وثالثها: تأكيد الدول الكبرى الشراكات ولكن الدول الصغرى ومنها بعض الدول الإفريقية ترى أنه لا توجد استثمارات كافية في صناعات السفن بالرغم من أن تلك الصناعات مصدر ربحية عالية، حيث إن كل دولار يعني ربح 4 دولارات وكانت هناك دعوات صريحة من ممثلي الدول الإفريقية للدول الكبرى إلى الاستثمار في بناء السفن في تلك الدول، ورابعها: الاختلاف حول مسؤولية حماية البحارة ، حيث لوحظ أن تعرض هؤلاء البحارة لمخاطر عديدة، وأثيرت الخلافات حول مسؤولية حماية هؤلاء البحارة هل هي الدولة التي ترفع السفينة أعلامها؟ أم الدولة المشاطئة للممر البحري؟ أم أنها الدولة التي تم تسجيل السفينة التجارية فيها؟ ولم تكن هناك توافقات حول تلك القضية ولكنها أحد نتائج تهديدات الجماعات دون الدول للأمن البحري، وخامسها: الاختلاف حول الأولويات الدولية للتعاون بشأن تحقيق الأمن البحري، هل بناء القدرات البشرية أم الاستثمارات في ذلك القطاع أم الاستمرار في بناء التحالفات؟
ومجمل القول إن المؤتمر بغض النظر عن نقاط الاتفاق والاختلاف كان فرصة مهمة للتعرف على استراتيجيات الدول والمنظمات بشأن الحفاظ على الأمن البحري سواء في الممرات المائية أو المحيطات ومن بينها المحيط الهندي، فللهند استراتيجية للحفاظ على الأمن البحري وفق رؤية 2047 ومن ملامحها الاستفادة من البحار ضمن خطة التنمية المستدامة وتعزيز الشراكات الدولية لحماية طرق الملاحة البحرية الحيوية وتوظيف التكنولوجيا في مجال الأمن البحري وخاصة الذكاء الاصطناعي، وتنفيذ حوالي 300 مبادرة في مجال الأمن البحري من خلال استحداث مؤسسات لهذا الغرض منها المركز الوطني للملاحة وضخ استثمارات هائلة في الموانئ خلال السنوات القادمة تبلغ 10 مليارات دولار.
وفي تقديري أن المؤتمر انعقد في توقيت مهم للغاية وخاصة أنه جاء بعد عام من تأسيس تحالف حارس الازدهار لحماية الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر والتي أدت تهديداتها إلى تأثيرات سلبية في عديد من الدول منها انخفاض إيرادات قناة السويس بمصر بنسبة 60% بسبب تهديدات الملاحة البحرية في تلك المنطقة، وهي ممر دولي يمر من خلالها 12% من التجارة العالمية وما سببته تلك الهجمات من زيادة تكلفة التأمين والشحن، فضلاً عن إلقاء الضوء على نسب اعتماد الدول على البحار، ففي بعض الدول البحار هي مصدر الدخل اليومي وبالتالي أثير الحديث عن كيفية تأمين سبل العيش لهؤلاء الأفراد، بالإضافة إلى مناقشة الأسس التاريخية والجغرافية التي يمكن أن ينطلق منها التعاون ولكنها ليست كافية بحد ذاتها في ظل احتدام التنافس والصراع في البحار بشكل غير مسبوق.
ولاشك أن المؤتمر يعد بداية مهمة لنقاش وحوارا استراتيجيا بين مسؤولي الأمن البحري في دول العالم ليس فقط للحديث عن التعاون والشراكات ولكن لتحديد الأولويات والتهديدات وكذلك الموارد المتاحة من أجل ممرات آمنة ومحيطات تكون مجالاً للأمن التعاوني بدلاً من التنافس العسكري الذي تشهده العديد من المناطق البحرية حالياً، والنتيجة تهديد أمن العالم بأسره في ظل الاعتمادية التجارية المتبادلة وزيادة وتيرة الاعتماد على البحار كوسيلة رخيصة للنقل ولكنها لم تعد آمنة ليس فقط من خلال التهديدات التقليدية بل التهديدات السيبرانية والتي كانت حاضرة ضمن تلك المناقشات ، فضلاً عن الكوارث الطبيعية والتي تمثل خطراً هائلاً في كل المحيطات ومن بينها المحيط الهندي الذي يعد مركزاً لما يقرب من 70% من الكوارث الطبيعية.
والخلاصة الاستراتيجية للمؤتمر هي: إما أن تتعاون دول العالم وإما المزيد من تهديدات البحار.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك