راهنت ليلى المطوع في روايتها الجديدة «المنسيون بين ماءين» على قدرتها بإعادة تناول موضوعي «البحر والنخلة» إبداعياً، بحيث تضيف بناء جديداً إلى المنجز السابق. وهي مسألة فيها جرأة، نظراً إلى كثرة تطرق الكتاب والشعراء إليهما، شعراً ونثراً.
وتشكل إضافة الكاتبة جهداً يستحق التوقف عنده لامتلاكها الأدوات الفنية اللازمة لتقديم رؤية جديدة ومن منظور مختلف لحكايات البحر الكثيرة، التي قال عنها علي عبدالله خليفة «ملها الليل ومجتها الظهيرة» من ناحية، وإلى وصف علوي الهاشمي للنخلة بأنها الأم الحقيقة، والبحر هو الأب الشرعي مانح الخير والرزق رغم قسوته وتجهمه وغدره، من ناحية أخرى.
ورهان المطوع أو مغامرتها السردية، تأسست في الإطار العام على الارتباط المصيري بين هذين العنصرين في هذه الرقعة الجغرافية: النخلة والبحر وانعكاسهما على الإنسان، تكويناً وحياة، ولكنها أضافت للماء المالح الماء العذب. ورسمت برشاقة داخل الإطار العام تاريخاً مفصلاً ضارباً في القدم منذ أرض الخلود، «دلمون» ذات المياه العذبة، في شكل ينابيع وعيون فوارة بعد مباركة الإله أنكي -كما تقول الأسطورة. ولذا نجدها تقول «لا أحد يعلم أن البحر في بواطننا أعمق».
فقد ضفرت روايتها بعناية من مادة التاريخ، ومواد التراث، فضلاً، عن طاقة خيالية وأسطرة أسبغت على العمل أبعاداً إضافية. وتمكنت في المحصلة النهائية من تقديم رؤية بدأت مع النقطة الصفر في التاريخ حتى وصلت بحركة دائرية إلى خلق أسطورة جديدة تمثلت في انتقام الماء لنفسه، وذلك بعد الاعتداء على البحر دفناً وتطويقاً، ومن ثم القضاء على المياه الجوفية والعيون العذبة. وتأثير ذلك، بالنتيجة، على النخلة التي تنمو وتكبر وترتوي بالماءين؛ الماء المالح والماء العذب والتي انتقمت بدورها. وانعكاس كل ذلك على الإنسان الذي تجسد في شخصية «ناديا».
ففي الرواية نجد أن المطوع نسجت بلغة رشيقة بساطاً سردياً، تداخلت فيه الأزمنة وتقاطعت. وحبكت خيوطه من حكايات وحكايات تربط سيرة النساء في صراعهن المرير لعيش مشاعر الأمومة مع غموض وكرم الماء والنخيل سواء بسواء. فناديا تأخذ زمام الحكي وتوجهه إلى أقصى نقطة في التاريخ حتى اللحظة الراهنة، من خلال تتبع سيرة البحر والنخلة، وما يحملانه من قيمة رمزية ومادية. لتتداخل ما حملته الأجيال من عادات وتقاليد موروثة. فربطت - مثلاً - موت طرفة بن العبد والقفز على جثته والتخضب بدمائه، بعادة ذهاب المرأة العقيم إلى مكان بناء السفن الجديدة كي تقفز على «البيص-» قاعدة السفينة.
كما اختارت أن تتكئ على أساطير دلمون من خلال «ناديا» البطلة والشاهدة التي سجلت على صفحة الماء، بفراته وأجاجه، حيوات متعددة لأجدادها على مر العصور. شريط ذكريات سطرها الأسلاف في علاقتهم بالبحر والعيون العذبة وحب النخيل، لتدون ذاكرة الماء وذكريات لا يمكن قراءتها إلا حين يكون دمها «نخلاوياً». دم ورثته من جدتها «نجوى» وجدها «مهنا» الذي امتهن الغوص على اللؤلؤ. لتعرض بشكل مفصل أهوال ما يتعرض له الغاصة في رحلة «الهولو واليامال».
تتنقل المطوع في روايتها برشاقة بين أزمنة متفرقة، وتتلمس في هذا التجوال الإسهام المهم لينابيع المياه العذبة ودورها في استيطان الجزيرة بوصفها مقصداً مغرياً. وهو ما حدث من قبل جميع الحضارات التي تركت أثراً، كاشفة عن طقوس كل حضارة، مستعينة بخيال ميثيولوجي – إن صح التعبير – وآخر مستمد من ذخيرة الثقافة الشعبية «كانت الجزيرة تحوي نساء دفن تحت الرمال، وتحولن إلى عيون، وحين تشرب من كل عين، ستجد طعمها مختلفاً كطعم صاحبتها».
وحول هذه المسألة نلحظ تفنن الكاتبة في استنبات هذه الأساطير، مثل تقديم قرابين البنات الصغيرات كي تبتل الأرض بدموعهن ويرتوي التراب بمائهن، فتتدفق المياه ويهلل الناس فرحاً في مواسم القحط. وتعرض لوحة لفتيات يغنين لإله المطر كي تبتل أرضهن، ويصاحب الغناء رقص تتحرك فيها شعورهن يميناً وشمالاً. وتستحضر في سياقات أخرى الحكايات المخيفة الخاصة بالبحر، من خرافة «بودرياه» خاطف الصيادين، إلى حكاية البحر الغدار في صورة ملك متربع على عرشه، ومن حوله ترقص النسوة ويلفحن شعورهن أمامه، لعله يعيد الغائبين.
وسلطت المطوع الضوء على التواجد المهم للنخلة بشكل مواز مع الماء/ البحر. فقد سنت القوانين لحمايتها على مدى عصور، فالأرض طوعت لتغرس فيها جذورها، لدرجة من يقطع نخلة أو يمس سعفها يُلعن وتطارده الآلهة، لتمنحهن بذلك خلال السرد ذاكرة، ذاكرة وقوفهن على الساحل ورؤيتهن جميع الوقائع التي حدثت على هذه الأرض، فهن شواهد، وعمرهن يتجاوز آلاف السنوات، ولهن ذاكرة واحدة، ووجع واحد، وكل نخلة تشعر بالأخرى، وينقلن ذاكرة بعضهن إلى بعض من خلال الماء. «حين لم تكن الطبيعة تعترف بالتقسيمات التي وضع حدودها البشر، تتمدد الأشجار في كل الاتجاهات، جذورها في قرية وثمرها يسقط في قرية أخرى».
تتقاطع «المنسيون بين ماءين» إذاً بين المستقبل والماضي. وناديا البطلة تعيش حاضراً ومستقبلاً فقد اتصاله بالماء، وتعوض ذلك بحالة ولادة وانبعاث لحيوات متعددة وتجارب سابقة وذكريات بتفاصيلها، لترى ذاكرة الماء، تنقيباً وبحثاً، ولتسطر سيرة البحر الذي أتت الحضارة الجديدة على موجه. إلا أنه غدر بجميع من يحبونه رافضاً التوبة حتى عندما تردد له النسوة «توب توب يا بحر». تقول الكاتبة «عليك قراءة البحر، فلكل شيء ملامح تختلف عن ملامح البشر، ولكن عليك إجادة قراءتها، كل شيء على وجه البحر من الممكن قراءته».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك