يعد الروائي الإيطاليَّ إيتالو كالفينو واحدًا من أهم الأصوات الروائية في القرن العشرين من خلال رواياته ذات العمق الفلسفيَّ في تأثره بالاتجاهات الفلسفية الفرنسية وخاصة رولان بارت والتفكيكي جاك دريدا إلى جانب تأثره الواضح بالاتجاهات الظاهراتية (الفينومينولوجيا). وقد انعكست رؤيته الفلسفية على رؤيته للعالم في رواياته وأخص بالذكر روايتي مدن لامرئية) وثلاثيته (أسلافنا).
في كتاب (المرئي واللامرئي) للفيلسوف الفرنسيَّ ميرلو بونتي يستشعر هذا الفيلسوف الصورة المتجدِّدة للعالم. يقول ميرلو بونتي «بمزيد من الاستشعار لروابط الحقيقة التي تربطه بالعالم وبالتاريخ يجد الفيلسوف نفسه ليس أمام هاوية الأنا أو العالم المطلق، بل أمام الصورة المتجدِّدة لعالم، تلك الصورة التي يجد نفسه مغروسًا فيها بين الآخرين». ورواية إيتالو كالفينو (مدن لامرئية) Invisible Cities تنتظم في سياق الأدب اللامرئي لسبر أغوار العوالم الخفية لفضاءات المدن ومزج الواقع بالتاريخ بالعجائبي. وأيُّ قارئ مغرم بفضاءات الأمكنة في أبعادها الفلسفية العميقة وليست الظاهرة لابدَّ له من قراءة هذه الرواية المذهلة بالفعل.
«المدن لا تخبرنا بماضيها إنَّما سنلمحه في تفاصيلها الصغيرة التي تحتويها». في هذه الرواية المدهشة يقارب كالفينو عددًا من مدن العالم القديم على لسان الرحَّالة الإيطالي ماركوبولو، ولكن المدينة الوحيدة التي اختزلت مدن العالم كلها هي فينيسيا.. نعم كانت فينيسيا دون سواها الفضاء الذي يرد على لسان هذا الرحَّالة الإيطالي الذي كلما سأله أحد عن مدائن الشرق التي زارها وارتحل إليها ينسى السرود الأخرى ويتحدث فقط عن فينيسيا. فينيسيا التي كان يخشى من تدوينها وكتابتها حتى لا تضيع ذاكرته بعد أن اتخذت شكلاً كتابيًا محدَّدًا وهو الذي كان يريدها دائمًا أن تكون المطلق والكل وليس الجزء. إذن كتاب ماركوبولو (عجائب العالم) هو كتاب لم يدوّنه بنفسه كما فعل ذلك أيضا الرحَّالة المسلم ابن بطوطة وكتبه بعده ابن جزي الكلبي في كتاب «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». وكتاب ماركوبولو كتاب مصاغ من مئات السرود الشفاهية التي نثرها ماركوبولو على البحَّارة والمسافرين في أنحاء العالم المدهش آنذاك وفي هذا الكتاب البحري المائي تستحوذ فينيسيا بسطوة حضورها على سرود المدائن كلها.
كان الإيطالي ماركوبولو طوال رحلته إلى مدائن الشرق المبهرة مأخوذًا بسحر فينيسيا وكرنفاليتها وعجائبيتها المائية، ولذلك كان السرد الوحيد الذي يرد على لسانه هو سرد فينيسيا في حين تتوارى المدن الأخرى رغم عجائبيتها أمام سطوة فضاء أوحد في قلبه وعقله. وعندما سأله الإمبراطور المغولي قوبلاي خان عن المدن التي رآها ضاعت المدن الأخرى وتلاشت وحضر فقط سرده لفينيسيا الأمر الذي أثار دهشة الحضور وفي مقدمتهم إمبراطور المغول!
إيتالو كالفينو في روايته المدهشة هذه يتابع سير رحلة ماركوبولو التي بدأ من الماء من فينيسيا التاريخية الأسطورية الكرنفالية إلى الماء، حيث أقاصي الشرق وإمبراطورية قوبلاي خان المترامية الأطراف التي تشتمل على مدن متوغلة في الغموض. وكالفينو في سرده يحاول التعمق في طبائع المدن وخصائصها في أبعادها الفلسفية العميقة التي لا تتكشف إلا بعد عمق التوغل فيها وعمق التأمل. وفي هذا السرد كله يبوح لنا كالفينو برؤيته اللامرئية للعالم. وهذه الرواية تغريك بالقراءة مرات عدة وفي كل قراءة لها أتكشف أبعادًا لم أنتبه إليها في قراءات سابقة: اللامرئي.. فضاءات المدن.. سحر الذاكرة وعمق الأبعاد في رواية عميقة جدًا.
أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث
المشارك كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك