العدد : ١٧٠٥٦ - الثلاثاء ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٢ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٦ - الثلاثاء ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٢ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

جريس وحياة المتاعيس

أحمد‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬سخر‭ ‬لنا‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬مضطرا‭ ‬إلى‭ ‬متابعة‭ ‬ما‭ ‬تأتي‭ ‬به‭ ‬قنوات‭ ‬التلفزة‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬فقد‭ ‬صارت‭ ‬قنوات‭ ‬يوتيوب‭ ‬تغنيني‭ ‬عن‭ ‬البث‭ ‬التلفزيوني‭ ‬المباشر‭ ‬وغير‭ ‬المباشر،‭ ‬وأجد‭ ‬فيها‭ ‬مبتغاي‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬وتقارير‭ ‬وتوثيق،‭ ‬ثم‭ ‬انتبهت‭ ‬مؤخرا‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬أتابع‭ ‬في‭ ‬يوتيوب‭ ‬مقاطع‭ ‬فيديو‭ ‬قصيرة،‭ ‬يندرج‭ ‬محتواها‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬التوافه‭ ‬trivia‭.‬

وطالعت‭ ‬في‭ ‬يوتيوب‭ ‬ملخصا‭ ‬لحياة‭ ‬جريس‭ ‬كيلي‭ ‬أميرة‭ ‬موناكو،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ممثلة‭ ‬مشهورة‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭ ‬ثم‭ ‬تزوجت‭ ‬بالأمير‭ ‬رينيه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬وعاشت‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الضوء‭ ‬طوال‭ ‬عمرها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفيت‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬سيارة‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬سيرتها‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬التوثيق‭ ‬والمتابعة،‭ ‬لأن‭ ‬سِيَر‭ ‬وحكايات‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬تستهويني،‭ ‬ولكن‭ ‬استوقفتني‭ ‬معلومة‭ ‬صغيرة‭ ‬عن‭ ‬حياتها،‭ ‬وهي‭ ‬أنها‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬موناكو‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬به‭ ‬220‭ ‬غرفة‭ ‬ونحو‭ ‬180‭ ‬حماما‭ ‬ودورة‭ ‬مياه،‭ ‬ونعرف‭ ‬عن‭ ‬موناكو‭ ‬أنها‭ ‬إمارة‭ ‬كلها‭ ‬فرفشة‭ ‬دون‭ ‬ضوابط‭ ‬أخلاقية‭ ‬أو‭ ‬قانونية،‭ ‬ومصدر‭ ‬الدخل‭ ‬الأساسي‭ ‬للإمارة‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬القمار‭ ‬والهشك‭ ‬بشك،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬وكر‭ ‬معروف‭ ‬للجواسيس‭ ‬الذين‭ ‬يصطادون‭ ‬زوار‭ ‬الإمارة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬السياسة‭ ‬والصناعة،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬عدد‭ ‬غرفه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الشعرات‭ ‬السوداء‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬أبي‭ ‬الجعافر،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كاتب‭ ‬سيرتها‭ ‬الذاتية،‭ ‬راندي‭ ‬تارا‭ ‬بوريللي،‭ ‬يقول‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬تحس‭ ‬بالعزلة‭ ‬والتعاسة‭ ‬والوحدة‭!! ‬وهنا‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬‮«‬الحمد‭ ‬لله‮»‬‭!! ‬ما‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬زيد‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬معك‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكتب‭ ‬ويتقاضى‭ ‬نفس‭ ‬الراتب،‭ ‬بنى‭ ‬فيلا‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬طوابق‭ ‬وبها‭ ‬جاكوزي‭ ‬وكراج‭ ‬يتسع‭ ‬لتسع‭ ‬سيارات،‭ ‬وأن‭ ‬أثاث‭ ‬بيته‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬إيطاليا‭ ‬أو‭ ‬كمبوديا،‭ ‬بينما‭ ‬أنت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬مؤجرة‭ ‬من‭ ‬غرفتين‭ ‬والموكيت‭ ‬فيها‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الصلع،‭ ‬وبلاط‭ ‬الحمام‭ ‬مصاب‭ ‬بالأكزيما‭ ‬ويعاني‭ ‬من‭ ‬تشققات‭ ‬لأن‭ ‬مالك‭ ‬العمارة‭ ‬اللئيم‭ ‬امتنع‭ ‬عن‭ ‬صيانة‭ ‬الشقة‭ ‬ليرغمك‭ ‬على‭ ‬إخلائها‭. ‬من‭ ‬أدراك‭ ‬أن‭ ‬زيداً‭ ‬هذا‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬شقتك‭ ‬البائسة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يضمن‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬راحة‭ ‬البال؟‭ ‬ربما‭ ‬يحسدك‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬شقتك‭ ‬تشقشق‭ ‬بفرح‭ ‬عيالك‭ ‬ومرحهم‭ ‬كلما‭ ‬دخلت‭ ‬عليهم‭ ‬بسندويتشات‭ ‬الشاورما،‭ ‬التي‭ ‬تشتريها‭ ‬بسعر‭ ‬التكلفة‭ ‬بينما‭ ‬بيته‭ ‬بكل‭ ‬بهائه‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬سجن‭ ‬كئيب‭ ‬بالداخل‭!‬

راحة‭ ‬البال‭ ‬والسعادة‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الفاخر‭ ‬أو‭ ‬السيارة‭ ‬الفارهة‭ ‬أو‭ ‬الرصيد‭ ‬البنكي‭ ‬ذي‭ ‬الأصفار‭ ‬العديدة‭.‬

أذكر‭ ‬أن‭ ‬بيتنا‭ ‬الذي‭ ‬قضيت‭ ‬فيه‭ ‬طفولتي‭ ‬كان‭ ‬بائسا‭ ‬بمقاييس‭ ‬كل‭ ‬الأزمنة‭: ‬لا‭ ‬ماء‭ ‬مصفى‭ ‬ولا‭ ‬كهرباء‭. ‬المعزة‭ ‬تنام‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬كذا‭ ‬متر‭ ‬من‭ ‬سريري‭. ‬العقارب‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ركن‭ ‬في‭ ‬الأمسيات،‭ ‬والدجاج‭ ‬يتجول‭ ‬داخل‭ ‬الغرف‭ ‬ويخلف‭ ‬وراءه‭ ‬أشياء‭ ‬مقرفة‭ ‬لأنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬التهاب‭ ‬القولون،‭ ‬والوجبات‭ ‬خالية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬من‭ ‬اللحم،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مفهوما‭ ‬لماذا‭ ‬يحرص‭ ‬أهلنا‭ ‬على‭ ‬تربية‭ ‬الدجاج‭ ‬طالما‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يقدمون‭ ‬لنا‭ ‬البيض‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يأتنا‭ ‬ضيف‭ ‬‮«‬خمسة‭ ‬نجوم‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬بيتزا‭ ‬أو‭ ‬بيرغر،‭ ‬ولا‭ ‬كورن‭ ‬فليكس،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬شرائح‭ ‬جبن،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كنا‭ ‬ننام‭ ‬فور‭ ‬وضع‭ ‬رؤوسنا‭ ‬على‭ ‬المخدات‭ ‬المحشوة‭ ‬بملابسنا‭ ‬القديمة،‭ ‬لأن‭ ‬يومنا‭ ‬بطوله‭ ‬كان‭ ‬فرحا‭ ‬ومرحا‭ ‬وشقاوة،‭ ‬وحياتنا‭ ‬لا‭ ‬يعكرها‭ ‬أن‭ ‬فلان‭ ‬لديه‭ ‬تلفزيون‭ ‬90‭ ‬بوصة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬سيارتهم‭ ‬طولها‭ ‬تسعة‭ ‬أمتار،‭ ‬كان‭ ‬الطعام‭ ‬القليل‭ ‬المتاح‭ ‬شهيا‭ ‬ويملأ‭ ‬بطوننا،‭ ‬لأنها،‭ ‬أي‭ ‬البطون،‭ ‬كانت‭ ‬مبرمجة‭ ‬على‭ ‬القناعة‭. ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نحسد‭ ‬شخصا‭ ‬لأن‭ ‬لديه‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نحس‭ ‬بالحرمان‭ ‬أو‭ ‬الدونية،‭ ‬وأعترف‭ ‬للمرة‭ ‬الألف‭ ‬بأنني‭ ‬كنت‭ ‬مغرورا‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬حمار‭ ‬فُل‭ ‬أتوماتيك،‭ ‬أي‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬طريقه‭ ‬من‭ ‬وإلى‭ ‬المدرسة‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬توجيه‭ ‬أو‭ ‬ضرب‭ ‬أو‭ ‬تعشيق‭! ‬ولم‭ ‬أحس‭ ‬عندما‭ ‬اشتريت‭ ‬أول‭ ‬سيارة‭ ‬جديدة‭ ‬بنوع‭ ‬الفرح‭ ‬الطاغي‭ ‬الذي‭ ‬غمرني‭ ‬عندما‭ ‬صار‭ ‬عندي‭ ‬حمار‭ ‬‮«‬فور‭ ‬كوارع‮»‬‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا