عالم يتغير
فوزية رشيد
الخالة أمينة ورائحة زمن الطيبين!
{ إنه الزمن الذي يشتد وهجه بريقا ونحن نسند ظهورنا، ونُدخل الطمأنينة إلى قلوبنا، حين نرى تلك الوجوه الطيبة التي صاحبتنا منذ طفولتنا، فتفتحت عيوننا على مرآهم. وعلى دفء الوصل بهم، خاصة أولئك الأقارب الذين نشد الرحال إلى بيوتهم دائما ويعاودون الزيارة بعد فترة، وتربطنا بهم صلة روحية وألفة عائلية في زمن كان من أجمل الأزمان التي عشناها معهم، لأنه الزمن الموصوف بزمن الطيبين، فإذا ما غادر دنيانا أحدهم زادت غربة الزمن الآلي والمادي الذي نعيشه اليوم، فتلك الوجوه والقلوب الطيبة كثيراً ما كانت تعيدنا إلى الزمن الذي مضى، وحيث حميمية الصلات العائلية والأسرية كانت تسطر لنا أروع الذكريات، وتفتح أمامنا مخيال الطفولة بالحكايات، ودفء العائلة الممتدة، التي لا ينسى فيها القريب قريبه، ولا الصديق صديقه، ولا الجار جاره، فإذا ما انخرطت حبات المسبحة واحدة تلو الأخرى. فيرحل الآباء والأمهات ثم الأقارب فالأصدقاء، فالأسماء التي سجلت في أرواحنا بصمتها، نشعر مرة بعد أخرى أن الزمن يزداد غربة بنا وفينا، وأننا نفقد أواصرنا بكل من نحب، فتشتعل الذاكرة بهم مجددا مع الرحيل، وتأبى الاستسلام للخواء أو للفراغ الذي يتركونه في أرواحنا!
{ من هؤلاء الخالة «أمينة أبو الفتح» التي رحلت قبل أيام عن دنيانا25/10، وبها اجتمعت كل خيوط الحنين التي تشدنا إلى زمن الطيبين، وصوتها رغم بعد المسافة الزمنية بين الطفولة والكهولة، لا يزال يرن في الأذن، وهي تطمئن علينا ونحن صغار نلعب في حوش بيتها، ذلك الحوش الكبير الذي كان يطل على بحر الحِد من بابه الخارجي الآخر، فنتراكض إلى سيف البحر، وهي تقول لنا: «لا تبتعدوا واحذروا من البحر فهو في حالة مد» لكننا نضحك ونركض ونمرح ونصطاد القواقع ونجمعها، ونمسك بنجمات البحر، التي كانت تذهلنا في تلك الطفولة البعيدة، حتى ترسخت مياه البحر وترابه في أقدامنا وأيدينا، ثم نعود مجددا الى البيت الكبير، وأمهات العائلة في متعة الحوار العائلي الأليف، فنطمئن إلى قلوبهم، فيما وجه - الخالة أمينة «يشع بفرح التجمع العائلي، وهي تمد سفرة الغداء أمامنا، فقد كنا في زيارة لها وللعائلة في الحد.
الخالة أمينة وجه العائلة الأليف في امتداد عائلة «أبو الفتح»، وحيث أمي تسرد الحكايات عن ابنة خالتها أمينة، والأخت الأصغر «فاطمة» «وأبو الفتح» الأب والعمود الفقري للعائلة المتعلقة بحكاياته وقصصه وكتبه القديمة، ومنها السرديات التاريخية، وكانت أمي رحمها الله، تذكره دائماً بمحبة خاصة، لأنه كان بدوره يخصها بالرعاية والمحبة، وكانت أمينة وفاطمة هما الأليفتان لنا في الزيارات العائلية المتبادلة مع البنات، وحيث ما أن تقرر الوالدة يوم الزيارة، حتى يشع الفرح، فهناك بالنسبة لي البيئة الثقافية الأولى على مستوى العائلة، وحيث أخيهما «عبد الرحمن أبو الفتح» كان يخصني وأنا مازلت في المرحلة الابتدائية بكتب نجيب محفوظ «الروائية»، وثلاثيته المشهورة! هل من هنا بدأ تعلقي بالرواية؟!
{ اليوم رحلت «أمينة أبو الفتح» بعد أن أصابنا ككل الآخرين وباء الانفصال العائلي منذ سنوات، وتباعدت الزيارات، ولكن بقيت المحبة ذاتها متوهجة في القلب، والسؤال لم ينقطع، وبرحيلها شعرت فجأة، أن عموداً آخر من أعمدة القلب ينهار، وقد رحلت قبلها أمي، التي كنت ما أن أقول لها: «يُمة إيش رأيك نروح بيت فاطمة وأمينة هناك وبقية العائلة» حتى تنشرح أساريرها وكأني جلبت لها أثمن هدية! هكذا كانت تحبهم، ومثلها كنت أحبهم، ومثلنا هم يبادلوننا المحبة، حتى كان الشقيق الأكبر «محمد أبو الفتح» يزورنا بين فترة وأخرى للاطمئنان، رغم كثرة مشاغله، ولا ينسى أبداً بنات الخالة أمي وخالتي ثاجبة.
{ أمينة.. هل أقول إنك تركت فراغا سواء تعرفين أو لا تعرفين أم إنك تركت مكاناً لا يملأه غيرك، أم إن فضاء ذلك الزمن الجميل كان يؤطره وجهك وطيبة قلبك وابتسامتك التي تشبه ابتسامة أمي؟! أم إن الزمان كلما رحل أحدكم يرتد على نفسه، لتبقى الأطياف الراحلة أجمل ما فيه وما في الذاكرة، التي تشكلت من سماء البحرين وبحرها وعيونها الحلوة وطيبة أهلها، فيتغلب الطيف حينئذ على وجه الواقع الذي خطف الناس وأرواحهم في دوران العجلة المتسارعة! فلم يبق مع الوقت ومع رحيل ذلك الجيل الأجمل إلا رائحة شخوصه، ووجوههم، وقلوبهم الرائعة، التي اتسمت بها البحرين دائماً وبهم.
الخالة أمينة رحمك الله، فالذاكرة مليئة بك، وبحكايات الوالدة عنك، تغمدك الله بواسع رحمته وأسكنك جنانه، مع كل الأبرار والصالحين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك