قضية صحية جديدة وعاجلة بدأت أبعادها الخطيرة تتضح وتنضج يوما بعد يوم، وتبينت انعكاساتها المهددة لحياة الملايين من البشر في كل أنحاء العالم، سواء كانت هذه الدول فقيرة تعاني من ضعف في الأنظمة الصحية، أو غنية وثرية تتوافر فيها الخدمات الطبية الحديثة والمتطورة.
وهذه القضية ستتحول إلى وباء مزمن يصعب علاجه مهما أنفقنا من أموال وبذلنا من جهود إذا تجاهلت دول العالم تحدياتها الواقعية العصيبة، وإذا لم تتحد جميعاً وتتعاون مع بعض، وتتبادل المعارف والخبرات في التصدي لها مبكراً قبل أن تتفاقم وتستفحل وتتجذر في أعماق النظام الصحي البشري. ولذلك لا بد من المجتمع البشري ممثلاً في منظمة الصحة العالمية والمنظمات الأممية ذات العلاقة، إضافة إلى وزارات الصحة في جميع الدول أن تُشمر عن ساعديها من اليوم لفرض الحلول العملية المناسبة والكفيلة بمحوها من مجتمعنا.
وقد تنبهتْ البحرين إلى جدية هذه القضية الحيوية المتعلقة بانكشاف وظهور الميكروبات التي تقاوم وتُبْطل عمل المضادات الحيوية التي تستخدم للإنسان والحيوان، ومردوداتها الحالية والمستقبلية على صحة البشر، فاستضافت في الفترة من 19 إلى 22 سبتمبر 2024 المؤتمر العالمي الخاص بمواجهة هذه القضية تحت عنوان: «المؤتمر الدولي للميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض المعدية» (antimicrobial resistance or AMR).
وتزامناً مع انعقاد هذا الحدث الدولي الصحي المهم، نُشْر بحث علمي دولي شامل يسبر غور هذه القضية والظاهرة الصحية الخطيرة لأكثر من 31 عاماً وغطى 204 دول، فيؤكد هذا البحث واقعية وخطورة التهديدات الكبيرة التي تُشكلها هذه الظاهرة الصحية المتفاقمة حالياً ومستقبلاً على جميع دول العالم بدون استثناء. وقد نُشرت هذه الدراسة الجامعة في مجلة «اللانست» الطبية المرموقة في 16 سبتمبر 2024 تحت عنوان: «العبء الدولي لمقاومة مضادات الميكروبات البكتيرية 1990 إلى 2021: تحليل منهجي وتنبؤات بحلول عام 2025»، إضافة إلى دراسة أخرى صدرت في مجلة «الطبيعة» الموثوقة في 17 سبتمبر 2024 تحت عنوان: «40 مليون وفاة بحلول عام 2050: ارتفاع نسبة العدوى المقاومة للأدوية إلى 70%».
وتكونت عينة البحث الدولي من 520 مليون إنسان، وغطت فترة زمنية أكثر من ثلاثة عقود، وبالتحديد في الفترة من 1990 إلى 2021، كما ركزت على 22 نوعاً من الميكروبات المرضية و11 نوعاً من الأمراض، حيث خلصت الدراسة إلى الاستنتاجات العامة التالية:
أولاً: يقدر إجمالي عدد الوفيات المتعلق بالجراثيم المقاومة للعدوى والأمراض المصاحبة لها في عام 2021 بنحو 4,71 ملايين، ويتضمن هذا العدد 1,14 مليون وفاة لها علاقة مباشرة بهذا النوع من البكتيريا المقاوم لوظيفة المضادات الحيوية. ثانياً: خلال فترة الدراسة، وهي 31 عاماً تغيرت نسبة أنماط الوفيات بحسب الأعمار والمناطق. ففي الفترة من 1990 إلى 2021 انخفضت أعداد الوفيات بنسبة أكثر من 50% بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات بسبب تطعيم الأطفال في سن مبكرة، ولكن في الوقت نفسه ارتفعت النسبة أكثر من 80% للذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة لأنهم أقل قدرة وقوة على المناعة من العدوى، وهذا النمط من الوفيات في ارتفاع أكثر في كل عقد من الزمن.
ثالثاً: تشير الدراسة إلى أن إجمالي عدد الوفيات من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية والأمراض التي لها علاقة بها ستصل إلى 10,13 بحلول عام 2025، معظمها ستكون في دول شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا، والكرايبين.
رابعاً: تتنبأ الدراسة أنه في الفترة من 2025 إلى 2050، سيشهد العالم وفاة أكثر من 39 مليون إنسان بسبب الالتهابات والميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، والتي تُطلق عليها وسائل الإعلام (Superbug).
خامساً: معظم الوفيات كانت بسبب التعرض للعدوى من نوع من البكتيريا هو (Staphylococcus aureus) الذي يُعدي الجلد، والدم، والأعضاء الداخلية لجسم الإنسان، حيث كانت الزيادة بنسبة 90,29%. إضافة إلى مجموعة من أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات والعدوى، ويُطلق عليها (gram-negative bacteria)، مثل (Escherichia coli) و(Acinetobacter baumannii).
فهذه الحالة المرضية المعقدة، وهذه الظاهرة الصحية المتشابكة المتعددة الأبعاد والموجودة حالياً التي ستتفاقم في المستقبل، تُحذر منها منظمة الصحة العالمية، وتصفها في وثائقها الرسمية بأنها «واحدة من أكبر التهديدات العالمية للصحة العامة والتنمية». ولذلك فالعلاج الجذري لهذا المرض يكمن في تضافر الجهود على المستوى الدولي، والتنسيق والتعاون في وضع خطة موحدة على المستويين الدولي والإقليمي. فقد تبنت دول العالم الخطة التنفيذية الدولية (Global Action Plan) في عام 2015 أثناء اجتماع «جمعية الصحة العالمية»، وتعهدت في الاجتماع الأممي بتطوير وتنفيذ خطة قومية متعددة القطاعات، وتنفيذ مدخل صحي واحد لمواجهة الظاهرة. ومن أجل نجاح هذه الخطة تعاونت عدة منظمات دولية في التخطيط لها ووضعها للدول منها منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء والزراعة، والمنظمة الدولية لصحة الحيوان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وعلاوة على ذلك، فقد انبثق عن الخطة برنامج توعوي وتثقيفي، حيث أقرت الأمم المتحدة أسبوعاً كاملاً لنشر الوعي بهذه الحالة الصحية في الفترة من 18 إلى 24 نوفمبر من كل عام، كما أن على دول العالم تطوير خطتها التنفيذية القومية.
وهناك عدة أسباب تقف وراء بروز هذه الظاهرة الصحية التي تضر بالإنسان، والحيوان، والنبات في وقتٍ واحد، من أهمها سوء إدارة المضادات الحيوية للإنسان والحيوان، سواء كانت مضادات حيوية للبكتيريا، أو الفيروسات، أو الفطريات، أو الطفيليات. وسوء الإدارة يعني بالتحديد كثرة وتكرار استخدام هذه المضادات ولحالات لا تستدعي وصف المضادات الحيوية للمريض، سواء الإنسان أو الحيوان. كذلك من الأسباب التخلص غير السليم من هذه المضادات، حيث إنها تصرف مع مياه المجاري، وهذه في نهاية المطاف تصل إلى الإنسان أو الحيوان مرة ثانية وترفع من قدرة الجراثيم بجميع أنواعها على تطوير آليات لمواجهة الأدوية ومقاومة تأثيرها، كما تزيد من كفاءتها في منع دخول وغزو الأدوية إلى داخل الخلايا، وهو ما يعني عدم فاعلية المضاد الحيوي في قتل الجراثيم، فلا تموت هذه الجراثيم وإنما تستمر في التكاثر والنمو والانتقال إلى إنسان آخر.
ومن الجدير بالذكر ومن حسن الحظ أن هذا الوباء الصحي القادم واضح ومعروف المعالم، من حيث الأسباب والعلاج، ولذلك على الدول الإسراع في تنفيذ خطة العلاج حتى نُجنب المجتمع البشري مثل هذه الأمراض المهلكة للإنسان والحيوان.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك