عاشت البشرية حوالي قرن، أو أقل قليلا، في ظل مرحلة نشأنا على تسميتها بمرحلة «السلم الأمريكي». الزعم سائد بأن هذه التسمية مدينة بابتكارها لصاحب إحدى أشهر مجلات القرن الماضي، وهي مجلة لايف الأمريكية. الحقيقة هي أن الرجل قرأ في واقع السياسة الدولية وقتذاك واحتمالات تطورها ما ينبئ بقرب نهاية مرحلة بالغة الأهمية في السياسة الدولية سميت وبحق مرحلة السلم البريطاني. وهذه بدورها مستقاة من مرحلة أسبق في التاريخ القديم وهي مرحلة السلم الروماني نسبة إلى قرون عاش العالم المعروف وقتها تحت هيمنة قوانين وسلطات إمبراطورية روما.
يشهد التاريخ بأن كلا من هذه التجارب في الهيمنة مرت بفترات صعود وفترات انحدار وفترات خضوع واستسلام من جانب الشعوب الواقعة في ظل الهيمنة وفترات نضال واستئساد. يشهد أيضا أنه في كل هذه التجارب وعندما لاح على شؤون إمبراطورية الهيمنة دخولها منحنى التراخي والانحدار أقدم القائمون عليها وبتردد شديد على اتخاذ قرارات وابتكار سياسات توقف بها الانحدار أو تدخل بها إصلاحات جوهرية وأحيانا أو كثيرا ما تكون شكلية ومتأخرة.
اليوم وغدا يجتمع زعماء العالم لمناقشة ما أطلق عليه الخبراء «أجندة للمستقبل». قمة لعلها الأهم منذ زمن طويل. أخيرا انتبه العالم إلى أن حاضره سيئ، بل بالغ السوء. هناك خشية حقيقية وهائلة منتشرة في كل أرجاء العالم من أن يكون المستقبل مثل الحاضر أو أسوأ لو ترك يتطور بدون تدخل حاسم من الجماعة الدولية.
وبالفعل تحرك الزعماء واجتمعوا في عدة عواصم. عقدت مؤتمرات عدة إقليمية واستضافت العواصم الكبرى مؤتمرات جرى تنظيمها وعقدها على عجل وانعقدت في القاهرة دورة عادية لمجلس جامعة الدول العربية دُعي لحضورها أكثر من شخصية دولية مؤثرة. كان واضحا في كل هذه المؤتمرات أن العالم بأسره، بأغنيائه وفقرائه، ينشد التغيير إلى الأحسن. كان واضحا في الوقت نفسه أن الطرف المهيمن على العالم حريص على ألا تجرفه وحلفاءه أمواج التغيير ونيته خالصة نحو العمل من خلال القمة على تعزيز قواعد الوضع القائم والتصدي لمحاولات تغييرها.
لا تنعقد القمة بهدف محاكمة طرف أو آخر عن مسؤوليته في التدهور الحاصل في العلاقات الدولية وأمن ورخاء العالم. إلا أن الأجواء التي سادت قبيل انعقاد القمة وخاصة ما اتضح في سجالات القمم الإفريقية ومقالات الرأي في صحف أوروبا وفي دوائر التفكير الساكت في دول الشرق الأوسط، أن القطب المهيمن، وهو الولايات المتحدة، صار محل اشتباه في مسؤوليته المباشرة عن أوضاع وقضايا تسببت فيما آل إليه حال العالم في السنوات الأخيرة، من بينها ما يلي:
أولا: يحسب على القطب المهيمن أنه فرض العولمة نظاما يتضمن الكثير من المغريات ويجدد آمال الشعوب في مستقبل أفضل ثم عاد، بعد أن حقق لأمريكا مصالح وامتيازات كبيرة، فانقلب عليه أيضا ليحقق لنفسه مكاسب أكثر على حساب شعوب أخرى.
ثانيا: أقدم على تنفيذ مغامرة كبرى حين قرر منفردا إنهاء حال الاستقرار الوليد في بعض دول الشرق الأدنى بتدخله العسكري واحتلاله أراضي في كل من العراق وسوريا لأسباب غير مبررة. لعله بررها سرا لبعض حلفائه الأوروبيين بأن هذا الموقف الأمريكي إنما كان لضمان أمن طويل الأمد لإسرائيل.
ثالثا: القطب الأمريكي المهيمن متهم بأنه عمل أو تسبب أثناء احتلاله أراضي عربية غنية استراتيجيا واقتصاديا على تدشين منظمات إرهابية وتعزيز وجود القائم منها باستمراره احتلال أراضٍ عربية. كل عربي في موقع المسؤولية أو خارجها يعلم، ويهمس بما يعلم لمن يأتمنه، أن بعض هذه المنظمات الإرهابية مكلفة بألا تمس أمن إسرائيل بالضرر ولا تضر بمصلحة أمريكية.
رابعا: غريب حال الدبلوماسية والدبلوماسيين العرب. أعرف العديد منهم وأحتفظ بصداقات مديدة مع بعضهم، هؤلاء لا يخفون في وجودي أنهم وقياداتهم يحملون واشنطن المسؤولية المباشرة عن استمرار حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على شعب فلسطين. مازلت عند وجهة نظري القديمة ولكن غير البالية وهي أن الدول العربية إنما تفتقد الكثير والعظيم من ابتكارات دبلوماسييها بتطبيقها قواعد وأساليب لا تشجعهم على الكشف عن مواهبهم ووطنيتهم الخلاقة عند التعامل مع مخالفات صهيونية أو أمريكية.
خامسا: جيل جديد من السياسيين والدبلوماسيين أصبح ينظر الى السياسة الخارجية الأمريكية من منظور دولة عظمى مهيمنة لا تتورع عن استخدام السلاح النووي، فقد استخدمته ولا عن التوصية باللجوء إلى حروب الإبادة إذا استدعى أمر إقامة دولة في أرض يسكنها شعب وبالفعل هي نفسها لجأت إلى استخدام هذه الوسيلة.
سادسا: أمريكا الوريث الشرعي والفعلي لبريطانيا العظمى في تبني المشروع الصهيوني للشرق الأوسط، وربما للعالم بأسره. يجب الاعتراف على كل حال، بواقع أن هذا الثلاثي المهدد الأساسي لتحقيق حلم التكامل الأمني والاقتصادي العربي هو نفسه مهدد في استمراره. القطب المهيمن في انحدار متواصل من حيث نسبة الإمكانات الكلية إلى إمكانات أقرب منافس ومن حيث القدرة على الانفراد بحل أو تسوية نزاع دولي متفاقم.
من ناحية أخري كشفت التطورات الأخيرة في بريطانيا عن تعاظم نواحي القصور في النظام الحزبي للمملكة ونواحي الاقتصاد بشكل عام وتراجع كبير في الهيبة والمكانة. الطرف الثالث، وأقصد إسرائيل، يبدو أنه أقحم نفسه في أزمة متعددة الأوجه لم يكن مستعدا لها رغم اطمئنانه إلى صمود حليفيه.
يحسب لمرحلة القطبية الأحادية، وإن استعارت صفات وأساليب الهيمنة، أنها:
أولا: حافظ القطب المهيمن لأكثر من سبعين عاما على درجة من السلم العالمي بعدم قيام حرب عالمية ثالثة، لعل ذلك ما كان ليتحقق لو غاب الدور الأمريكي وفشل الآخرون في إقامة تعددية قطبية مناسبة وقادرة. ولا شك أن انعقاد قمة المستقبل فرصة أمام القوى الدولية المختلفة لدراسة بدائل مناسبة للهيمنة الأمريكية والتصدي لجهود واشنطن في استغلال هذه القمة لتعزيز الهيمنة وإحباط جهود إقامة البديل سواء في شكل نظام دولي ثنائي القطبية أو بأقطاب متعددة.
ثانيا: لا أستبعد أن يكون الانحدار الأمريكي، وعلاماته تزداد مع الأيام، وراء ظاهرة تردي مستوى كفاءة النخب الحاكمة في أوروبا فضلا عن ظاهرة صعود بعض قوى اليمين المتطرف مهددا شرعية هذه النخب الحاكمة، فضلا عن تزايد اختلافات الرأي حول الاستمرار في تمويل حرب أوكرانيا والموقف من وحشية الحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط وسلاسل الاغتيالات.
ثالثا: تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل والهيمنة الصهيونية على أعمال السلطة التشريعية الأمريكية وعلى أداء أجهزة الإعلام ونفوذها المتزايد في دوائر وادي السيليكون وشركات صنع السلاح ووزارة الخارجية، كلها وغيرها كثير صار وربما لأول مرة موضوع رأي عام علي عكس ما تريد منظمات الضغط الصهيوني وبعض دوائر الحكم باعتبار أنه يقيد حرية اتخاذ القرار ويقلل من هيبة أمريكا الدولية.
لم يخرج عن جامعة الدول العربية ما يفيد أن مجلس الجامعة ناقش باستفاضة أو اهتمام يذكر القضايا المطروحة في أجندة المستقبل على قادة العالم أو اتخذ من القرارات ما يؤكد أن وفودنا العربية سوف يكون لها صوت أو أصوات في قضايا جميعها نحن منشغلون بها على كل الأصعدة منها قضية مستقبل الشباب العربي، ناهيك عن مستقبل أدوارنا في النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي أو محاولات الالحاح على اخراج نظام الشرق الأوسط الجديد إلى النور.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك