في ظل تصاعد الصراع في غزة وتزايد التوترات في منطقة الشرق الأوسط، ارتفعت أصوات الانتقادات الموجهة إلى الحكومة الأمريكية بقيادة «جو بايدن» بسبب فشلها في الوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس والحد من الممارسات الوحشية الإسرائيلية في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك ظلت الولايات المتحدة تكرر الحديث عن تفاؤلها بأن «الصفقة وشيكة»، وأن الصراعات الإقليمية الأخرى التي تخوضها إسرائيل ــ مع حزب الله على الحدود اللبنانية الجنوبية، ومع الحوثيين في اليمن، ومع النظام الإيراني ــ يُمكن حلها بشكل طبيعي في حال الوصول إلى وقف للقتال في غزة.
لقد جاءت التوقعات الأمريكية حيال اتفاق وقف إطلاق النار بمثابة نظرة وردية مفتقرة إلى الواقعية وغير مراعية لتعقيدات الصراعات الأخرى والتي تشمل إيران وحزب الله والحوثيين. فوصف «ستيفن كوك» زميل بارز في «مجلس العلاقات الخارجية» في واشنطن، أن مثل هذا التوقعات «لا تتوافق مع الواقع»، وأنها أسست «أساطير وأشباه حقائق» تتعامل بها الآن إدارة بايدن في السياسة الخارجية الأمريكية، وأشار «كوك» إلى أن وقف إطلاق النار في غزة لن «ينهي حروب إسرائيل» بمختلف أرجاء المنطقة؛ كون «الصراعات الأكثر مرارة» والتي تتورط فيها إسرائيل «ليست كلها مرتبطة ببعضها البعض. بينما انتقد «ستيفن كولينسون» من شبكة «سي إن إن» المسؤولين في واشنطن لمطاردتهم «سرابًا» من صنع أيديهم.
وطعن «كوك» في افتراض المسؤولين الأمريكيين، ورغم اعترافه بأن إنهاء القتال في غزة سيكون «بلا شك» «أمرًا جيدًا للفلسطينيين» الذين عانوا كثيرًا طيلة الأشهر الماضية، إلا أن دوافع حزب الله والحوثيين وإيران ليست مرتبطة بشكل مباشر بالأحداث في غزة، وهو ما يُثير التساؤلات حول كيف قد يؤدي إنهاء العنف في منطقة صراع واحدة إلى تغيير أفعال ونوايا الآخرين؟!
ففي حالة حزب الله في لبنان، فعلى الرغم من تحذير مراكز الفكر الغربية مرارًا من مواجهة واسعة النطاق وشيكة بين الحزب وبين إسرائيل والتي ستبدأ بغزو بري واحتلال عسكري، خاصة وقد سبق لها أن أقدمت على هذا، إلا أن كوك قد أكد أن ذلك الصدام المحتمل «لا علاقة له بوقف إطلاق النار في غزة».
كما أشار إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يظنون خطأً أن وقف القتال في غزة سيجعل الحوثيين يتوقفون عن مهاجمة إسرائيل وإطلاق النار على السفن التجارية، وهو ما يتناقض مع التزام الحوثيين الأيديولوجي بالحرب ضد إسرائيل، ما يعني أنهم لن يتوقفوا لمجرد اتفاق هش لوقف إطلاق النار أو حتى سلام طويل الأمد. وأضاف كوك أن وحشية إسرائيل في غزة أعطت الحوثيين فرصة للهجمات على المصالح الإسرائيلية، لذا «ليس هناك سبب للاعتقاد بأن الحوثيين سيتوقفون».
كما توقع كوك أن أي اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة أمريكية لن يغير الاستراتيجية الإيرانية بقيادة آية الله خامنئي؛ حيث إن طهران لا ترغب في حرب مباشرة لكنها تستفيد من دعم وكلائها لمحاربة الإسرائيليين والأمريكيين؛ مما يساعد على تحقيق هدفها الاستراتيجي بدفع الولايات المتحدة خارج الشرق الأوسط. وكما مع حزب الله والحوثيين، فإن ٍأي اتفاق في غزة من غير المرجح أن يغير أهداف إيران الرئيسية، إذ إن طهران تستطيع أن تتحلى بالصبر والمرونة، متبعة سياسة براجماتية تجاه وقف إطلاق النار عبر الأمم المتحدة، بينما تواصل زعزعة الاستقرار في مناطق أخرى.
ومع احتفاظ كبار صناع السياسات الأمريكيين «برغبتهم الشديدة في منع امتداد الصراع الإقليمي» وبالتالي تأكيد أن إنهاء القتال في غزة كخطوة أولى نحو هذا الهدف، «تطرق «كولينسون» إلى عدم تغير «الدوافع» التي قادت البيت الأبيض «إلى هذه الدائرة المفرغة من الفشل»؛ وذلك لتكرار فشل التحركات الدبلوماسية التي يقودها وزير الخارجية، خلال سعيها المعيب للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، والتي قوضها في أغلب الأحيان أقوال وأفعال نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف.
وإثباتًا لذلك، عندما استعرض بايدن تفاصيل أول خطة أمريكية لوقف إطلاق النار في نهاية مايو 2024، زعم أن «النهج الشامل» للسلام في غزة بين إسرائيل وحماس لن يعيد الرهائن إلى ديارهم فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى «إسرائيل أكثر أمانًا»؛ لأن مثل هذه الصفقة «تفتح الباب أمام إمكانية تحقيق قدر أكبر بكثير من التقدم، وبشكل خاص، الهدوء على طول الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان. إلا أن إسرائيل قد اغتالت بعد شهر قائدًا كبيرًا في «حزب الله» بغارة جوية؛ وكان هذا تصعيد إسرائيلي مع حزب الله وداعمه إيران.
لذا تُعد الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل سببًا رئيسيًا للتوترات الإقليمية. فبالإضافة إلى الحرب الوحشية على غزة التي أودت بحياة أكثر من 42,000 مدني فلسطيني و95000 مصاب وألحقت أضرارًا بمليارات الدولارات في البنى التحتية، وخضوع الحكومة الإسرائيلية للتحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، فإن حكومة نتنياهو أضافت إلى جرائمها اغتيالات لبعض القادة من حماس وحزب الله ومزيدا من التوتر ووضعت عقبات وصعوبات نحو وقف إطلاق النار والتفاوض.
ورغم الانقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية، إلا أنه لم يظهر أي مؤشر على رغبة الأطراف المعنية في تفكيك الائتلاف، ما يعني أن نتنياهو لا يواجه استعجالًا لتأمين إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين أو الاتفاق على وقف إطلاق النار، حتى مع كون إسرائيل غارقة في حرب لا يمكن الانتصار فيها، ومع معاناة اقتصادها وتضرر صورتها العالمية.
ويرى «كولينسون» أن الاتفاق للسلام يبدو بعيدًا، ويشير إلى أن فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية الخارجية يؤثر سلبًا في مصداقيتها كقوة دبلوماسية. كما انتقد إدارة بايدن لإساءة تقديرها الأوضاع، مما قوض جهود وقف القتال. ويرى «كوك» أن أي وقف لإطلاق النار في غزة سيكون مجرد «إجراء تكتيكي» لإيران ووكلائها، وأن «حربهم ضد إسرائيل ستستمر».
وأشار «ستيفن إم. والت» أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، إلى أن العديد من الإخفاقات سواءً السياسية أو الدبلوماسية أو الأخلاقية للتوصل إلى حل دبلوماسي تعود إلى دعم الولايات المتحدة المستمر لإسرائيل. وأكد «والت» على أن «الدعم المشروط بفرض العقوبات والمحاسبة للالتزام بالقانون الدولي» من الديمقراطيين والجمهوريين تجاه إسرائيل يمكن أن يجبرها على إعادة النظر في سلوكها ومسارها. وجاءت تصريحات «كامالا هاريس» في الحملة الانتخابية حول ضرورة «التوصل إلى صفقة» توفر الأمان للفلسطينيين، بينما أعلنت دعمًا عسكريًا كاملًا لإسرائيل؛ لتظهر أن القادة الأمريكيين لم يتعلموا من الأضرار الناتجة عن منح إسرائيل حرية التصرف كما تشاء في الشرق الأوسط.
على العموم، إن الاعتماد على وقف إطلاق النار في غزة كحل شامل يعكس سوء فهم عميق للعوامل المحركة للتوترات الإقليمية. وإذا أردنا تحقيق سلام فعلي، يتعين على الغرب مواجهة الحقيقة المرة بأن النزاعات الأوسع تتطلب استراتيجيات مختلفة تتجاوز مجرد التهدئة المؤقتة في غزة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك